المحوران والفسطاطان مرة أخرى

22 يناير 2015

أكواب للذكرى في متحف "11 سبتمبر" في نيويورك (سبتمبر/2013/الأناضول)

+ الخط -

مرة أخرى، لا جديد تحت الشمس. ومرة أخرى، نجد مناسبة لنردد فيها شطر عنترة: هل غادر الشعراء من متردم؟، ونجيب بـ "لا" متجددة، بعد أن نضع كلمة "العالم" في مكان كلمة "الشعراء". فها هو العالم لا يكاد يغادر متردماً واحداً من متردماته، الكثيرة هنا وهناك، وها هو يعيد إنتاج قضاياه ومشكلاته وأزماته وحروبه وصراعاته، بصيغ وأشكال وألوان مختلفة، تناسب أدوات العصر الجديد.
آخر قضية أعيد إنتاجها، برمتها تقريباً، القضية التي تكونت حالة عالقة ما بين المسلمين والعالم كله في أعقاب تفجيرات مبنيي التجارة العالمي في نيويورك قبل عقد ونيف. وعلى الرغم من أنها قضية لم تنته بعد، وما زال الجميع يعاني من تبعاتها، ويكتشف مزيداً من أسرارها، إلا أن منطق التاريخ الذي يحلو له أن يعيد أغلب أحداثه، بين فترة وأخرى، أعاد إنتاجها، هذه المرة، بصورة أوضع وشكل أصغر قليلاً. فكما فعلت أحداث "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة الأميركية فعلت، أو ستفعل، حادثة "شارلي إيبدو" في فرنسا. وكما اهتز العالم كله في محاولة لتجديد نظرته إلى الإسلام، باعتباره ديانة، وأيضاً حالة ثقافية ومجتمعية، بالإضافة إلى وجوده الجغرافي في الشرق الأوسط في 2001، اهتز العالم مجدداً، هذه الأيام، في محاولة أخرى، لتجديد النظرة نفسها.
حالة من الاستقطاب الحاد يعيشها العالم، الآن، تعيد إلى الأذهان عبارتين بمعنى واحد وموحد، تلفّظ بهما جورج بوش وأسامة بن لادن في أعقاب "غزوة نيويوك"، حيث قسّم الأخير، بعبارته، العالم إلى فسطاطي الكفر والإيمان، فيما قسّمه بوش بعبارته إلى محوري الشر والإرهاب.
المختلف في حادثة الهجوم على مجلة شارلي إيبدو في فرنسا أن لا "نجوم" من الطرفين يقفوا خلفها، حيث انقسم العالم تلقائياً ما بين المحورين أو الفسطاطين، وبلا توجيه مباشر من أحد. والتفسير الوحيد ربما أن العامل ما زال يعيش في انقسامه الأول، ولم يلتئم، منذ ذلك التاريخ، أساساً، فلم يكن بحاجة لمن يوجهه إلى انقسام جديد، أو حتى يعيد صياغة ذلك الانقسام بعبارة جديدة.
وكما فعل المسلمون، باعتبارهم أحد المحورين وأحد الفسطاطين المعنيين، في المرة الأولى فعلوا في الثانية. ولكن، بخبرة أكثر هذه المرة، فقد تقوقعوا في موضع الدفاع عن النفس، وصد تهمة "الإرهاب" التي رماها بهم الطرف الآخر، من دون أن يكونوا هم أنفسهم في الطرف الأول! وبدلاً من أن يتعامل العالم مع حادثة "شارلي إيبدو" كحادثة منفردة، مثل حوادث متشابهة كثيرة، تعامل معها، كعادته في الحوادث التي تتخذ من الإسلام عنصراً من عناصرها، أو شكلاً من أشكالها، أي أنه تعامل معها في سياق ديني بحت، لمجرد أن الأشخاص الذين اتهموا في التسبب بها مسلمون أولاً، ولأنهم، كما أعلن، فعلوا فعلتهم انتصاراً لنبي الإسلام، صلى الله عليهم وسلم، ثانياً، ولأن المجلة المستهدفة عُرفت بتهجمها الدائم على الإسلام ثالثاً. وبالتالي، وجد "الإسلام نفسه" الفاعل والمفعول لأجله، أما المفعول به، أي "شارلي إيبدو"، والتي كانت، في الأساس، الفاعل بتعمدها الإساءة لمشاعر المسملين في فرنسا والعالم كله، فقد تحولت إلى مجرد ضحية.
إلى أي مدى يكرر التاريخ نفسه؟ هل ستتشابه كل التفاصيل اللاحقة بين ما حدث في سبتمبر/أيلول 2001 ويناير/كانون ثاني 2015 إلى درجة التطابق مثلاً؟ هل سنتوقع حروباً إقليمية تشن، وخرائط ثابتة تتغير، وحدوداً جديدة ترسم، وأنظمة قديمة تسقط، وأخرى محتملة تقوم، وقواعد متوقعة تنشأ، وتحالفات غريبة تعقد...إلخ مما حدث في أعقاب 11 سبتمبر 2001؟
تتشابه البدايات إلى حد كبير، لكن التجارب التي راكمت الخبرات في الوعي الفردي والوعي الجمعي لدى الجميع ربما تجنب العالم ذلك كله. من يدري؟


 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.