أنساك... ده كلام؟

25 يوليو 2024

(مطيعة مراد)

+ الخط -

تقول الستّ أم كلثوم، في واحدة من تساؤلاتها التعجّبية "أنساك... ده كلام؟.. أهو ده اللي مُش ممكن أبداً..."، ولا ندري إن كانت الستّ في أغنيتها (كلمات مأمون الشناوي وألحان بليغ حمدي)، قد نسيت أمّ أنّها أثبتت لنفسها على الأقلّ أنّ هذا "مش ممكن أبداً". لكن في أيّ حال، لا تنفي حالة أمّ كلثوم في تلك الأغنية واقع النسيان في حياة البشر، ليس بالطبيعة وحسب، ولكن أيضاً حاجةً.
في سجلّ مديح النسيان، يقول ابن حزم الأندلسي إنّ النسيان هو "رحمة من الله بعباده، لكي ينسوا أحزانهم وآلامهم"، ويقول جبران خليل جبران إنّ "الذاكرة هي سجن العقل، والنسيان هو تحرّره". ويقول غازي القصيبي: "سبحان من وهب الإنسان نعمة النسيان لأنّها في بعض الأحيان تشكّل طريقة لحماية النفس والهرب من مآسي الحياة ومشكلاتها المُستعصية"... وغيرهم كثيرون دبجوا المدائح في تلك الظاهرة النفسية، التي تداهمنا أحياناً فتعصف بذكرياتنا أو في بعضها، لتتركنا في مهبّ الحيرة مما يحدث لنا. لماذا ننسى؟ هل بإرادتنا الحرّة واختيارنا الواعي؟ أم أنّ ذلك يحدث رغماً عنّا، ليضعنا أمام ضآلتنا الكونية وضعفنا البشري، بعيداً عن رحمة الله بخلقه؟
النسيان، إذن، أحد أكثر الظواهر النفسية تعقيداً وغموضاً في حياتنا بشراً، وهو عملية نفسية مُعقّدة تتداخل فيها عوامل كثيرة من الذاكرة والمعلومات والقدرة على الحفظ، والسياقات الاجتماعية والثقافية، والصحّية أيضاً. والنسيان في اللغة هو "زوال الشيء من الذهن والفكر"، أي فقدان الذكرى أو المعلومة أو الحدث من الوعي والذاكرة. وقد يكون هذا الفقدان جزئياً أو كلياً. وينظر إليه بعضهم بوصفه عيباً أو نقصاً في الشخصية، بينما ينظر إليه آخرون عمليةً طبيعيةً وضروريةً للصحّة النفسية.
ولأهمّيته وانتباه البشر له مُبكّراً، انشغل به الفلاسفة والعلماء عبر التاريخ، فدرسه أفلاطون وأرسطو وسقراط، والعديد من فلاسفة اليونان القدماء، وربطوه بقضايا الذاكرة والمعرفة والتفكير. وفي العصور الوسطى، ربط الفلاسفة المسيحيون النسيان بالخطيئة والذنب. أمّا في العصر الحديث، فحظي النسيان باهتمام علماء النفس والأعصاب، الذين درسوا آليات عمله والعوامل المُؤثّرة فيه، فخلصوا إلى أنّ النسيان ليس مُجرّد عيب أو نقص في الذاكرة، بل جزء طبيعي من عمل الدماغ البشري، وظاهرة طبيعية وضرورية في حياتنا ولأجسادنا، فالدماغ لا يستطيع الاحتفاظ بكلّ المعلومات والأحداث التي نمرّ بها، ولذلك ينظّم المعلومات، ويحتفظ بما هو مهمّ، ويتخلّص مما هو غير ضروري، وهو ما يساعد في الحفاظ على التوازن العقلي والنفسي. كما أنّه يسمح لنا بالتركيز على الحاضر والمستقبل، بدلاً من الغرق في الماضي، والتخلّص من الذكريات المؤلمة والمصادر النفسية السلبية، بالإضافة إلى تخفيف العبء المعرفي على الدماغ للتكيّف مع المتغيّرات المُستجدّة. ولهذا، فالنسيان حقيقةً علميةً جزءٌ لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فنحن ننسى أشياء كثيرة كلّ يوم، من الأحداث الصغيرة إلى المواعيد والمَهام المُهمّة، والوجوه والمعلومات والحكايات والقصائد. ننساها ولا نعرف أين ذهبت بالضبط، وهل ضاعت منّا إلى الأبد أم أنّها ستعود في لحظة مستحقّة ذات يوم؟ يحدث هذا وذاك كثيراً، ورغم أنّه يحدث للجميع، لكن بنسب متفاوتة بالتأكيد، ولأسباب عديدة، منها طبيعية كالتقدم في السن أو الإرهاق العقلي، وأخرى نفسية كالاكتئاب أو الصدمات العاطفية. كما أنّ هناك أسباباً عضويةً كالإصابات الدماغية أو اضطرابات الذاكرة.
ورغم الإحباط الذي قد نشعر به غالباً عند نسيان أشياء أو أحداث أو مَهمّة أو حتّى أشخاص معينين، إلا أنّ هذا كلّه لا يقارن بما يمكن أن يوفّره لنا النسيان من فرص جديدة دائماً لاكتشاف وصناعة أشياء وأحداث وتواريخ مُهمّة في حياتنا، أمّا من غاب، فهو يستحقّ الغياب فعلاً، وربّما لهذا قال خورخي بورخيس: "النسيان هو الحكمة الأكثر إشراقاً في الحياة".

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.