"المدرسة الجمهوريّة" في فرنسا
في أثناء دراستي في جنوب فرنسا في تسعينات القرن المنصرم، سألني صديق يُدرّس في ثانوية، فيها طلاب كثيرون من أصول عربية ومسلمة، أن أزوره وأتحدث إلى مَن يُشكلّون له أزمة مستعصية، وذلك من خلال تمرّدهم على القواعد المعمول بها، ورفضهم مفهوم "مدرسة الجمهورية"، المعتمد منذ كان جول فيري وزيراً للتربية، 1882، واضعاً قانون علمانية التدريس وإجباريته. وكان صديقي يعتقد أنني، كعربي أو كمسلم، أو كليهما، سأكون قادراً على اكتساب ثقتهم، والتخفيف من غلواء معارضتهم لكل ما يرد في دروسه، وخصوصاً في ما يتعلق بالانتماء إلى "قيم" الجمهورية الفرنسية. كذلك، لمحاولة ثني "عُتاتهم"، وهم قلّة، عن شغبهم المتواصل، والذي كان حينها مرتبطاً أكثر بتعاطي المخدرات الخفيفة وبيعها، وممارسة "التشبيح" على أقرانهم في المدرسة. وتحمّست للمهمة، مقتنعاً بإمكانية التقدّم خطوة في هذا الحقل المليء بألغام الهوية والانتماء والشعور بالإقصاء الحقيقي أو المُتخيّل.
في لقائي الأول، بدأت بالحديث عن رابط مشترك يجمعني معهم، وهو الانتماء الثقافي المباشر، أو عن طريق الآباء والأجداد إلى المنطقة العربية، فلم ألقَ إلا الاستهجان أو الاستغراب أو التهكّم من الغالبية. فانتقلت إلى حجتي الثانية، بتفعيل الانتماء الديني المشترك، فازداد الاستهجان والاستغراب والتهكم. عرفت، حينها، أنني وقعت في خطأ فادحٍ بالاعتماد على هذين المعطيين، لأبني حواري معهم. فرميت بهما جانباً، وبدأت الحديث كإنسان، شابٍ حينها، إلى مراهقين صعبي المراس. ودار حديث طويل، كم آسف، اليوم، لعدم تسجيله. وكانت الخلاصة تتعلق بمسألة الانتماء، فكثيرون منهم لا يعترفون، حينذاك، بأي رابطٍ مع المنطقة العربية، بتلاوينها الإثنية المتعددة، ولا بالدين الإسلامي بمذاهبه المختلفة. إضافة إلى أن لا ارتباط لهم بالبلد التي ولدوا فيها، وتربوا في مدارسها، وشبّوا في مساكنها، وهي فرنسا. وفي عجالة غير بحثية، أرجو أن يسامحني عليها عتاة الملاحظين والنقّاد، توصلت معهم إلى أن انتماءهم الأول والأخير هو إلى حيّهم الذي يقطنونه، بل وبعضهم حصر هذا الانتماء إلى الكتلة الاسمنتية التي يسكن فيها.
عشرون عاماً مضت تقريباً على ذلك الحوار، والذي كانت نتائجه التي لن أخوض فيها، إيجابية بالمطلق، وما زال المجتمع الفرنسي يُصارع هذه الظواهر التي تنمّ عن إدارة كثيرة الهفوات لملفٍ شائك ومعقّد، لم تختلف الحكومات اليسارية عن اليمينية في مقاربته. في المقابل، حظي بأدبيات علمية لا شك في أهميتها العددية والنوعية. واستثمرت مراكز الأبحاث، كما الجمعيات، الوقت والمال، في إطار مفهوم فرنسي متميّز لسياسة الاندماج، بعيداً عن الانصهار، للمكونات الأجنبية، أو التي هي من أصل أجنبي. وكما أن إدارة مسألة الأجانب من غير المسلمين تبدو أكثر سهولة فعلياً، فقد تركّزت الأنظار كما الأبحاث، على المجموعات التي تنتمي إلى الثقافة الإسلامية، متدينة كانت أم لا.
وفي وقت كان من الممكن نسبياً معالجة الأزمة، من خلال سياسات اقتصادية وتنموية وتكوينية، فسح غياب هذه السياسات أو ضعفها المجال أمام تعزيز النزعة الدينية الظلامية مع سنوات الألفين. وقد استفاد هذا التوجّه، كما العادة، من الفراغ الذي نجم عن استقالة الأهالي والأطر المدنية والمدارس من عملية البحث عن حلول لمشكلة الانتماء. كما أن غالبية الحلول التي جُرِّبت أفضت إلى نتائج قاصرة. وفي حين كان الشباب لا يعترفون إلا بحيّزهم الجغرافي الضيّق تعبيراً عن الانتماء، هبطت القوى الظلامية مدعّمة بأموال من كل حدب وصوب، للسيطرة على هذا الفراغ "الانتمائي"، وتوجيه الفراغ نحو فراغٍ أخلاقي وعقائدي بحجج دينية. ونجحت التيارات الأكثر تشدداً بالسيطرة على مساجد صغيرة غير شرعية، من خلال الاستقطاب السياسي الذي مارسته دولٌ عربيةٌ على المساجد الكبرى، فانعكست الخلافات العربية ـ العربية في إدارة المجال الإسلامي الشرعي، ما ترك مجال التأثير الأكثر فاعلية لمساجد الأقبية المظلمة، وللأئمة المُمَّولين وغير المؤهلين.
هذا جانب جزئي من واقع تتوجب معالجته بحكمة، وبعيداً عن التصورات المسبقة. وتعمل جمعيات مدنية كثيرة، كما المؤسسات التربوية، على معالجة جزء منه. في المقابل، يتطلّب الوصول إلى نهاية النفق انخراطاً أكبر من الجاليات وممثليها في الحيّز العام، والابتعاد عن سهولة لعب دور الضحية الذي لا يُفضي إلى أي نتيجة فاعلة ومؤثرة.
أجّجت أحداث فرنسا الأخيرة المشاعر، ودفعت "حمقى" كثيرين في السياسة وفي الإعلام، من جميع الاتجاهات، إلى الإدلاء بترّهاتهم. وستبرد النفوس، ويأتي وقت العمل المُنتج من خلال دولة القانون التي تُعطي للمجتمع المدني كامل الحرية في العمل وفي التحرك. وإن فوّت المعنيون هذه الفرصة "الثمينة"، ليكونوا على مستوى المأزق، فسنعود بعد سنوات لنتحدث عن مراحل الانحدار في واقع الجاليات المسلمة، ونعود لنبحث عن أسباب هذا الانحدار، ونحن نُحمّل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية.
ويتمتع المواطنون الفرنسيون، بمختلف مشاربهم وأديانهم وإثنياتهم، كما المقيمون من الأجانب، بحماية القانون وبقدرة العمل في المجال العام لتجاوز هذه الأزمة. وهذا يوجب توفر الإرادة إلى جانب الإمكانية، بعيداً عن الممارسات السياسوية المحلية والاستقطابات الخارجية، الظلامي منها أو المستبد.