"الجهاديون" البريطانيون والسؤال الغائب

06 سبتمبر 2014

احتجاجات في لندن على إغلاق أرصدة بنكية لمساجد(16أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

صفعة جديدة لمفهوم التنوع الثقافي البريطاني، جاءت مع الكشف عن تقرير الاستغلال الجنسي لحوالى 1400 فتاة قاصر، على يد شكبة من الرجال الباكستانيين في مدينة روزرهام البريطانية، بعد صفعة حقيقة تحول بريطانيا إلى أحد أبرز المصدّرين للإرهاب "الجهادي" في ما تسمى دولة الاسلام.

شكلت صورة ذبح الصحافي الأميركي، جيمس فولي، على يد بريطاني مجنّدٍ في "الدولة الإسلامية" هزة للرأي العالم البريطاني الذي انتقل من موقف التشكيك في جدوى التدخل العسكري في العالم العربي إلى تشجيع عملية عسكرية لاجتثاث خطر الدولة المذكورة. فعلت لكنة الإرهابي الإنكليزية، وسكينه الحاد المسلط فوق رقبة الصحافي الأميركي، ما لم تفعله صور مئات الأطفال الذين قضوا في هجوم الغوطة السورية الكيميائي، وصور ضحايا براميل البارود التي يلقيها النظام السوري على رؤوس مواطنيه، وصور الرؤوس المقطوعة لضحايا داعش أوعمليات رجم النساء وصلب الضحايا، وغيرها من أشكال بربرية الجماعة.

وقد اثارت صورة البريطاني الذي يجز رقاب ضحاياه، إلى جانب فيديوهات اليوتيوب الكثيرة عن إقبال بريطانيين عديدين من ذوي الأصول العربية أو المسلمة على "الجهاد"، من أجل دولة الخلافة، صدمة أخرجت الإعلام البريطاني، أخيراً، من خجله حيال تناول قضية التطرف الإسلامي المتنامي في أوساط المهاجرين من أبناء الجيل الثاني، أو الثالث، المولودين في بريطانيا. وجاء التقرير عن الاستغلال الجنسي لفتيات قاصرات على يد رجال باكستانيين في المدينة الفقيرة، شمال بريطانيا، ليدفع الإعلام، أخيراً، إلى تسمية الأمور بأسمائها، خصوصاً بعدما اعتبر التقرير أن أحد المسبباتٍ التي حالت دون ملاحقة الرجال خوف العاملين في الخدمة الاجتماعية من احتمال اتهامهم بالعنصرية، في حال تعاطوا مع الشكاوى التي تقدمت بها الفتيات الضحايا ضد الرجال الباكستانيين، على محمل الجد.

ومثل العاملين الاجتماعيين، اختار الإعلام، أولاً، أن يتفادى الإشارة إلى تفاصيل هوية مرتكبي الجريمة، ليصنف هؤلاء بأنهم من أصول "آسيوية"، من دون ذكر الجنسية أو الدين. ودفعت ردات الفعل الواسعة على التقرير الإعلام إلى الحديث، صراحةً، عن أصول الرجال، والتعاطي مع القضية، بجانبها المتعلق بمشكلات التنوع الثقافي للمجتمع البريطاني، وفي ما يتجاوز الجريمة نفسها. شكل ملف استغلال الفتيات القاصرات فرصةً للخروج، أخيراً، من شعارات الاحتفاء بهذا التنوع إلى طرح سؤال العلاقة بين المجموعات والدولة، والتماهي بينها وبين القيم التي يفترض أنها تنظم حياة المجتمع بكل مكوناته. والأهم أنها شكلت فرصة لطرح السؤال عن كيفية تحول الخوف من الاتهام بالعنصرية إلى جواز مرورٍ لارتكاب تجاوزاتٍ خطيرةٍ، وللسكوت عنها، باعتبار أن كشفها سيضر بقيمة التسامح حيال الاختلاف والتي تعتبر إحدى القيم الأساسية للمجتمع والنظام البريطانيين. ويطرح، أيضاً، السؤال حول ما إذا كان مرد هذا الصمت الخوف من تهمة العنصرية، أو مجرد لامبالاة تجاه مجموعات تعيش في قوقعتها "الثقافية"، لتقيم مجتمعاً داخل المجتمع، يفرض نمط حياةٍ لا يلتقي مع المجتمع الأم سوى بالجوار الجغرافي. مبالاة توحي بالتالي: هذا ما هم عليه، فما عسانا نفعل؟ دعوهم في حالهم.

أسقطت صور مجاهدي داعش البريطانيين نظرية الجوار المسالم بين المجتمع الأم ومجموعاته الصغيرة، بعدما أعلن هؤلاء الشبان انفصالهم العنيف عن قيم المجتمع، وضربوا سيوفهم في رقاب أبنائه. ولعل السؤال الأبرز هو عن تحول هؤلاء الأبناء الضالين من التدرج في مؤسسات الدولة إلى الانغماس في كل أشكال كراهيتها، باعتبارها "دولة الكفر"، كما قال معظم هؤلاء في شرائط الـ"يوتيوب" المتداولة، وصورهم وهم يمزقون جوازات سفرهم البريطانية، ويحرقونها. لا يبدو هؤلاء فقراء، ولا ينم القدر القليل من المعلومات المتوفرة عن أنهم ضحية تمييز اجتماعي أو سياسي ما. وقد اختصر أحد هؤلاء غرابة وضعه، ووضع زملائه، بالقول، في احد شرائط الفيديو هذه، إنه كان يعمل وكانت حياته عادية، ولا مشكلات لديه، ولكن لم يكن في وسعه ممارسة الإسلام، "لأن كل ما يحيط بنا هو كفر".

في أعمال الشغب التي شهدتها لندن، قبل عامين، حين أحرق مراهقون مباني، وسرقوا محال تجارية، ركز الإعلام البريطاني على البعد الأخلاقي وراء انفلات الشبان المراهقين، واختصر موجة الانفلات بأنها تعبير عن سقوط الوازع الأخلاقي والوطني لدى هؤلاء الشبان، من دون طرح الأسئلة اللازمة: من هم هؤلاء الشبان، وما ظروف معيشتهم؟ وقع الإعلام البريطاني في الفخ نفسه، في التعاطي مع قضية جهاديي داعش، فاقتصرت التغطية الإعلامية على استعراض خطة الحكومة لمواجهتهم، وإجراءات القضاء على وباء التطرف العنيف الذي استشرى بالمجتمع، من دون طرح السؤال الأهم: لماذا تحول هؤلاء الشبان، أولاد الدولة البريطانية العريقة ومؤسساتها، إلى هذا الرعب؟ من هم هؤلاء الشبان؟ ما قصتهم؟ كيف كانت نشأتهم؟ من عائلاتهم؟ ماذا عن الذين تحولوا إلى الإسلام من البريطانيين "البيض" ليطلقوا لحاهم وينضموا إلى الجهاد في دولة الخلافة؟ هل قصدوا مدارس؟ هل كانوا يقصدون مساجد؟ أي توجيه تلقوه فيها؟ من هم دعاة الحقد الذين يعملون على تأجيج كراهية هؤلاء الشبان، وكيف يسمح لهم بممارسة التحريض يومياً بشكل عادي؟

أسئلةٌ كثيرة غابت عن اهتمام الإعلام البريطاني، أو عن وعيه، ولعل أبرز ما غيّبه الإعلام في تعاطيه مع الأزمة حقيقة أنها ليست وليدة اليوم، إذ لم يتحول هؤلاء إلى التطرف بين ليلة وضحاها، ولم يكتشفوا لهفتهم إلى دولة الخلافة بمحض الصدفة، ولا تحولوا، فجأةً، من حب مجتمعهم إلى كراهيته الشديدة. غاب، أيضاً، عن الإعلام أن ظاهرة هؤلاء ليست وليدة النزاع في سورية، إذ واضح أن هؤلاء ليسوا معنيين به، بل كان هذا النزاع مجرد فرصة لانفجار كابوسٍ، ارتسمت معالمه خلال أعوام طوال، في حين كانت الدولة ومؤسساتها العريقة في غيبوبة، أو في لامبالاة.

دلالات
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.