منطقة القتل: الإبادة والحياة

11 يونيو 2024

مشهد من وثائقي "منطقة القتل: من داخل غزّة" (القناة البريطانية 4)

+ الخط -

يعتبر فيلم القناة البريطانية الرابعة "منطقة القتل: من داخل غزّة" أول شهادة شبه كاملة ينقلها الإعلام الغربي من داخل غزّة أو أقلّه الأكثر أهمية. يعرض الوثائقي مادّةً خاماً من داخل المدينة المُدمّرة، ولمن تبقّى من أهلها، بلسان الأطفال والصحافيين والمُسعِفين. الأكثر أهمّية أنّ المادّة المعروضة من مسرح الإبادة غير مُعقّمة أو مُخفّفة، لا تسعى إلى تخفيف وطأة القتل أو إخفاء بعض معالم قبحه. يعرض الوثائقي يوميات مدينة يَجهد من لم يقتل من أهلها في المواظبة على الاستمرار، بما في ذلك الحصول على مُقوّمات الحياة الأساسية إلى جانب التأقلم مع عادات جديدة دخلت على يومياتهم مثل محاولة الهرب من الموت، ودفن القتلى، ومحاولة التعرّف إلى جثثهم.

يقول "الوثائقي" إنّه يُقدّم صورة حميمة عن الحياة في وجه آلة القتل الإسرائيلية

لا يسعى "الوثائقي" إلى حجب المَشاهِد التي قد تثير صدمة المُشاهِد لقباحة العنف، إلّا أنّه لا يسعى، أيضاً، إلى إبراز صمود من تبقّوا من أهالي المدينة وقدرتهم على تحمّل ما لا يُحتمل فعلَ بطولةٍ رومانسية يستدعي سرديات التمجيد، التي يُردّدها الإعلام العربي منذ بدء الحرب. إنّهم أشخاص عاديون يعيشون ظروفاً غير عادية في كلّ المقاييس.
يقول "الوثائقي" إنّه يُقدّم صورة حميمة عن الحياة في وجه آلة القتل الإسرائيلية، وهي الصورة التي غابت إلى حدّ كبير في سرديات معظم الإعلام الغربي، مع تركيز الأخير على المواقف السياسية، واختصار صورة معاناة الأهالي، غالباً، في إفادات مسؤولي الأمم المتّحدة أو الطواقم الطبية. يلتقط الوثائقي حياة المدينة عبر ثلاث مجموعات تتعايش مع القتل بأشكال مختلفة؛ الأطفال والصحافيون المحلّيون والطواقم الطبّية. كلّ مجموعة تروي قصّةً تفوق الخيال. تتحدّث طفلة عن يوميات يصعب فيها النوم. تقول الطفلة لـ"الزنّانة" (الطائرة المُسيّرة) في سماء المدينة: "ألا تتعبين؟ لِمَ لا تذهبين الى دارك؟ أريد أن أنام". إلا أنّ قصص معايشة الخوف والجوع سرعان ما تتحوّل روايةً تحوّل المدينة إلى "مقبرة الأطفال"، بحسب الأمم المتّحدة. أعداد الأطفال المصابين في المستشفيات وصور جثثهم المُنتَشَلة من تحت الردم. بعضهم مفقود الأهل وبات يُصنّف ضمن فئة جديدة؛ طفل مصاب من دون عائلة ناجية من القصف، أو بحسب التعبير الشائع، مقطوع من شجرة. طفلة تروي كيف أنّ "بابا طار معي. طارت ماما. إخواتي تصاوبوا. كلّ عيلتي تصاوبوا بس كلنا منحب بعض، أنا ما متت أنا منيحة". طفل آخر تعرّض لعدّة حوادث قصف، وهو لا يعرف بعد أنّه فقد رجليه. لعلّه لا يفهم أنّه لا يزال حيّاً.
تبدو الفئة الثانية مُصمّمة على بعض المرح رغم القتل. مجموعة الصحافيين المحلّيين، بطلتهم هند الخضري، وهي مراسلة مُستقلّة تعمل مع عديد من وسائل الإعلام الدولية، وتتحدّث الإنكليزية بطلاقة. هنا، نرى مشهد التضامن بين الصحافيين المحلّيين، الذين يبدو عملهم وكأنّه مغامرة خطيرة أكثر منها مهمّة صحافية تقليدية. هم، أيضاً، يواجهون أحداثاً غير مسبوقة لم يعرفوها من قبل. مثلاً، تروي هند أنّ عشرات الأشخاص لجؤوا إلى المبنى حيث كانت تعمل عند الساعة الثانية صباحاً، بعد أن تلقّوا اتصالاً يطلب منهم مغادرة منازلهم قبل تدميرها. تقول هند: "إنّها المرّة الأولى التي أغطّي فيها أمراً من هذا النوع (تدمير مبنى)، لا أستطيع أن أعبّر عن مشاعري في كلمات. تغطية أخبار الجثث الملفوفة بالقماش الأبيض بعضها يحمل شعار مجهول؛ أنثى، ذكر، طفل... ينقل الصحافيون هذا المشهد بمزيج من التماسك والانهيار؛ أرى طفلاً تحت الركام، طفلة تحمل دبّها"... تتوقّف هند لتمسح دموعها قبل أن تواصل التغطية. إلا أنّ المهمّة الأكثر قسوة بحث هؤلاء الصحافيين عن أفراد عائلاتهم بين الجثث. يروي زميل هند كيف وجد أمّه لا تزال على قيد الحياة، تحت الردم. يقول إنّه تعرّف إلى جثّة أخيه من ظهره: "قلت له لا تموتوا جميعاً. ليبقَ أحدكم على الأقل". يقول: "لا تزال أعداد كبيرة من القتلى لم يتم التعرّف إليها تحت الردم، وبات هؤلاء يعرفون بمجهولي المصير". تشكّل شهادات هؤلاء الصحافيين الدليل النقيض لرواية الجيش الإسرائيلي عن استهداف مقاتلي "حماس" من دون المسّ بالمدنيين، ما يفسّر العدد الكبير من القتلى منهم. الفئة الثالثة هم المُسعفون في مقدمتهم الجرّاح الفلسطيني غسّان أبو ستّة، يروي من مستشفى الشفاء، الذي تحوّل سابقاً إلى مأوىً للعائلات النازحة، عمليات نزوح الطاقم الطبي مع المرضى والأهالي النازحين في غضون ساعات، وقصف غرفة العمليات حيث قتل أطبّاء.

أخرج وثائقي الشبكة البريطانية الرابعة رواية حرب الإبادة من برودة التغطية اليومية للإعلام

يعكس "الوثائقي" صورة حميمة ليوميات الصمود والتأقلم مع ظروف شبه مستحيلة، ولو أنّها تحوّلت إلى ما يشبه التقليد العادي لقدرة هؤلاء على الاستمرار والنزوح من مكان إلى آخر. يضجّ بشهادات النوستالجيا لما قبل الحرب، عندما كانت الحياة العادية حلوة. يشاركنا هؤلاء صوراً من الحياة السابقة، التي تبدو قريبة ولو بعيدة، تبدو جميلة مقارنة بالواقع المرعب رغم صعوبة تلك الأيام، وبساطة المتع التي يتحدّثون عنها، وكأنّها من زمن آخر، مثل الصور المُلتقطة للنزهات على شاطئ البحر، والتي يتصفّحونها على الهواتف النقالة. يقارب "الوثائقي" تفاصيل أساسية غابت من التغطية اليومية للحرب، ومنها التعايش مع أصوات الرعب القادم من الغارات، والقصف المتواصل، والتحليق المتواصل للطيران. الحياة تستمر عندما توجد، رغم كلّ شيء. الاحتفال بالطعام القليل عندما يتوفر، الاحتفال بالحياة إلى أن تزول، لتصبح هي، أيضاً، من الماضي.
أخرج وثائقي الشبكة البريطانية الرابعة رواية حرب الإبادة من برودة التغطية اليومية للإعلام. كما حاك رواية مترابطة من آلاف إفادات السوشيال ميديا التي ينقل فيها الأفراد معاناتهم أو حتّى موتهم. بذلك، أعاد إلى أهل المدينة بعضاً من إنسانيتهم، التي أرادت آلة القتل الإسرائيلية سلبها منهم.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.