في فهم الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني

18 يوليو 2014

جنود إسرائيليون يرتبون قذائف العدوان على غزة (يوليو/2014/Getty)

+ الخط -

لم تكن الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، وجديدها عدوانه الإرهابي الحالي الذي يستهدف قطاع غزة، عملاً مستغرباً، بل كان فعلاً متوافقاً مع طبيعة هذا الكيان، منسجماً مع البناء الفكري والتصور العقدي الذي يصدر عنه، فسلوك هذا الكيان نتاج جملة من التشوهات الإيديولوجية والآراء الماضوية والمصالح الاستعمارية التي تم تجميعها في بوتقة واحدة، ثم إعادة تخليقها بصورةٍ، تسمح بإنشاء مسخ سياسي، يشكل رأس حربة للمشروع الإمبريالي في المنطقة العربية. فما هي الأسس النظرية التي قام عليها هذا الكيان؟ وكيف يمكن توصيف بناه الفكرية والسياسية، وما الظروف التي حفّت بنشأته، وساعدت على استمراره، في أرض ظلت تلفظه على الدوام؟

كانت الصهيونية السياسية (تمييزاً لها من الصهيونية الدينية التي تؤمن أن العودة إلى أرض الميعاد ليست عملاً بشرياً، وأنها ستتم في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته) نتاجاً لما عرف في أوروبا في القرنين 18 و19 بالمشكلة اليهودية، ما يعني أنها مجرد إفراز للبورجوازية الأوروبية التي استغلت اليهودي في صورته التي تشكلت عبر تراكماتٍ، تاريخية ممتدة (صورة المرابي، المستغل، غير الأخلاقي..) لتصنع منه جماعة وظيفية، يمكن أن تخدم المشروع الإمبريالي التوسعي. (أنظر دلالة الجماعة الوظيفية، كما يحددها الدكتور عبد الوهاب المسيري في "موسوعة اليهودية والصهيونية")، وقد كتب ماركس عن هذا التوجه في كتابه "المسألة اليهودية"، "كانت اليهودية ليس ضد التاريخ، وإنما بالتاريخ، وكان المجتمع البورجوازي ينجب اليهودي باستمرار من أعماق نفسه" معتبراً، في الكتاب نفسه، أن هذه المشكلة ليس لها من مصدر، إلا أشكال التناقض التي تسود المجتمع الرأسمالي، أو البورجوازي، وأن ما يعرف بالعداء للسامية، مثلاً، ليس إلا نوعاً من الاضطهادات العديدة التي تعيشها هذه المجتمعات، ولأن البورجوازية لا يمكنها حل المسألة اليهودية، حينها، بصورتها العادلة والطبيعية، "ولأن جوهر اليهودي تحقق في المجتمع البورجوازي، ولا يستطيع المجتمع البورجوازي إقناع اليهودي بخيالية جوهره الديني الذي ليس إلا المفهوم المثالي للضرورة العملية"، فقد ارتأت الأنظمة الرأسمالية، بامتداداتها الإمبريالية توظيف هذه الجماعة الدينية المنبوذة، وقتها، لخدمة مصالحها. وماركس حين كتب عن المسألة اليهودية لم يكن يفكر في اليهودي، بصفته الدينية، وإنما في الإنسان الوظيفي، أي الإنسان الذي يتوحد تماماً، مع وظيفته، ويفقد إنسانيته، ويتعامل مع الآخرين، بوصفهم أدوات (مصدر ربح ـ مصدر متعة)، فيفقدهم إنسانيتهم المركبة.

ومن هذا المنطلق، يمكن فهم نشأة الكيان الصهيوني، بالصورة التالية:

أولاً: هذا الكيان فائض بشري، أرسلته أوروبا إلى فلسطين، وقامت بدعمه وتسليحه ومنحه الغطاء العسكري والسياسي، الضروري لأداء وظيفة استيطانية إحلالية، في خدمة المشروع الإمبريالي الواسع.

ثانياً: تم اختيار فلسطين لأهمية موقعها الاستراتيجي، وما يمكن للكيان الناشئ فيها أن يلعبه من دور جيوسياسي، في ضرب حركة التحرر العربي، وأيضاً، للمقدرة التعبوية التي يمكن أن توفرها فلسطين (من حيث رمزيتها)، في تجنيد الجماعة البشرية المستهدفة (الجماعات اليهودية).

ثالثاً: يشكل الكيان الصهيوني، ومن خلال الدعم الغربي، والأميركي تحديداً، دوراً وظيفياً في خدمة المشروع الاستعماري، عسكرياً واستراتيجياً، بحيث يمثل أداةً، يمكن تحريكها خارج المنظومة القانونية الدولية، لخدمة مصالح الغرب، وبشكلٍ يجنب الأخير أي إحراج سياسي، أو أخلاقي.

وبناءً على هذه المنطلقات، يمكن فهم طبيعة هذا الكيان، وتوصيفه على النحو التالي:

ـ ليس الكيان القائم على أرض فلسطين مجتمعاً متجانساً، ذا هوية واضحة، وتحكمه دولة عادية، وإنما هو تجمع استيطاني، لم تتحدد طبيعته بعد، وربما هذا ما يفسر إصراره على أهمية الاعتراف الفلسطيني بما يسميه يهودية الدولة.

ـ الطبيعة الهلامية للكيان الصهيوني هي ما يوضح لماذا يخلو نظامه السياسي من دستور، إلى حد اللحظة، وليست له حدود جغرافية واضحة.

ـ إن الجماعات البشرية المختلفة التي تشكل دولة الكيان، تتعايش بمنطق المصلحة المشتركة، ومن خلال الاستفادة من الدعم السخي، الآتي من الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يتجلى في ارتباط دولته المفترضة بالوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، وهو ما لا نجده في أي دولة عادية في العالم.

ـ لا يمكن توصيف النظام السياسي للكيان الصهيوني بالديمقراطية، وإن ادعاها، لأن التعايش الحاصل بين مجموعاته المختلفة نتاج لعبة مصالح مشتركة، واستفادة من الخدمات التي يقدمها لمموليه الدوليين، بحيث يمكن القول إن الأمر أشبه بتعايش بين عصابات مافيا، تتقاسم مناطق النفوذ في نطاق هذا الكيان الواحد.

ـ إن الطبيعة الاستيطانية الإحلالية للكيان الصهيوني تجعله، من حيث المبدأ، غير قابل للحوار، أو أن يتنازل عن أي شيء من خلال التفاوض، لأنه قام، أصلاً، على مبدأ ذبح السكان الأصليين، وتشريدهم، ومن ثم استقدام جماعات من المستوطنين، لتستقر بدلاً عنهم.

ـ الكيان الصهيوني هو نمط من التشوه السياسي الذي يلحق المجتمعات المستعمَرة، نتيجة لتضارب مصالح الدول المستعمِرة، ورغبتها في استمرار نفوذها (أشبه بنظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، أو حالة الأقدام السوداء في الجزائر قبل استقلالها).

ـ يعيش الكيان الصهيوني حالة هلع دائم، يتجلى في العسكرة المستمرة لمجتمعه، وفي لجوئه السريع للعنف ضد الفلسطينيين، أولاً، وضد كل من يتعاطف معهم (حادثة قتل راشيل كوري، والهجوم على أسطول الحرية على سبيل الذكر)، ورفضه الالتزام بالقانون الدولي والمبادئ الإنسانية، لأنه، أصلاً، نتاج نزوعات غير إنسانية وغير شرعية.

مما تقدم، يمكن التأكيد أن الكيان الصهيوني يدرك أن بقاءه مرهون بوظيفته، وإن استمراره مرتبط بلعب دور المارق على القانون والمبادئ، لأنه، في النهاية، لا يمكنه أن يتصرف كنظام سياسي طبيعي، وهذا ما يفسر أنه بقدر ما يتزايد وعي الشعوب في العالم بطبيعته الاستعمارية (من خلال نشاطات منظمات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية والأحزاب السياسية الوطنية) كلما شعر بدنو أجله، واقتراب لحظة تصفيته، والتخلي عنه، وحينها سيكون مصيره مثل مصير سابقيه، من الجماعات العنصرية الاستيطانية السائرة في ركاب الاستعمار، والتي لم تجد أمامها سوى أحد أمرين، الاندماج في الأغلبية السكانية الأصلية (البيض في جنوب أفريقيا) أو اللحاق بالأوطان الأصلية (مستوطني الجزائر)، فالصهيونية تظل، في النهاية، ظاهرة تاريخية، تخضع لقوانين الحراك الاجتماعي، ما يعني زوالها، عاجلاً أو آجلا.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.