150 عاماً على "كومونة" باريس
عادت ذكرى "كومونة باريس" لتقسم فرنسا اثنتين، بين من يريد الاحتفاء بها وإلقاء الضوء على منجزاتها وتأثيراتها التي تجاوزت دائرة التأثير المحلّي، والاعتراف بها جزءا من تاريخ الشعب الفرنسي، ومن لا يرى فيها سوى مرحلة وحشية، دموية، استلم خلالها "الرعاع" الفقراء إدارة المدينة، ليعيثوا فيها فوضى وخرابا. باختصار، تعتبر "كومونة" 1871، الثورة الفرنسية الرابعة التي مهّدت للثورات الاشتراكية في العالم، ونموذجا وحيدا لقيام أول ثورة اشتراكية راديكالية ضد البرجوازية في العصر الحديث.
عشية اندلاع الثورة الشعبية، كانت باريس، بدوائرها العشرين، تعدّ نحو مليوني نسمة، 70% منهم يعملون في القطاعين، الصناعي والتجاري، (900 ألف عامل وأجير، 11 ألف خادم، 45 ألف بوّاب، .. إلخ)، ناهيك عن سيطرة الوجه الريفيّ على المشهد الفرنسي عامة. قبل عام تماما، كان نابوليون الثالث قد أعلن الحرب على بروسيا، لكنه ما لبث أن استسلم بعد أقل من شهرين، ليُصار من ثم إلى الإعلان عن قيام الجمهورية في 4 سبتمبر/ أيلول، حيث بدأت الأفكار الثورية انتشارها. في يناير/ كانون الثاني من العام 1871، وبعد مرور ثلاثة أشهر على حصارها وتجويعها وتركيعها، استسلمت باريس لبروسيا بقيادة بسمارك، وشُكّلت حكومةٌ تؤيد التفاوض مع العدو. بيد أن الشعب الثائر رفض الرضوخ بعد كل التضحيات التي بذلها، فاستولى في 18 مارس/ آذار على المباني الحكومية، مُجبرا الحكومة على الهرب إلى فرساي. وقد انضم عدد كبير من أهل باريس إلى الحرس الوطني، بحيث بلغ عديده نحو 350 ألفا، وهو ما أرعب الحكومة، وجعلها توقّع على اتفاقية استسلام تمنح ألمانيا مقاطعتي الألزاس واللورين.
وفي 18 مارس/ آذار، مشى نحو ستة آلاف جندي نحو باريس، للهجوم على الحرس الوطني الذي زرع مدافعه على تلة مونمارتر، إلا أن العاملات المستيقظات باكرا أسرعن لتنبيه الناس من خلال قرع أجراس الكنيسة هناك، فاشترك الجميع، نساء ورجالا وأطفالا، مع الحرس، في مواجهة الجنود هاتفين: "يحيا خط الدفاع، تحيا الجمهورية"، فكان أن امتنع الجنود عن تنفيذ الأوامر بإطلاق الرصاص، ما أدّى إلى انتشار الانتفاضة في المدينة كلها. وقد تلا ذلك إجراء انتخابات بلدية ديمقراطية، فاز فيها تسعون عضوا من ممثلي الانتفاضة الذين أعلنوا في 28 مارس/ آذار قيام "كومونة باريس"، وسط حماسة مائتي ألف باريسي غطّوا ساحة البلدية.
رغب أعضاء الكومونة ببناء جمهورية اجتماعية وديمقراطية تسودها المساواة، وعبّروا عن ذلك بخطاب متحرّر، ومن خلال دينامية ثورية استثنائية، تمثّلت في إنشاء نواد وجمعيات شعبية وغرف نقابية، وأيضا في ممارسات ميدانية متعدّدة كانت تصبو إلى "تحرير العمّال على أيدي العمّال أنفسهم"، وكان للنساء حضور قوي فيها، إذ شاركن في كل النضالات والتجمعات والمسيرات، وكن من أكثر المطالبين بفصل الدين عن الدولة، والداعين، بالإجماع، إلى تبنّي العلمانية التي هي الحرية بقدر ما هي المساواة.
في مطلع شهر إبريل/ نيسان، وبالتآمر مع الألمان، انطلق الجيش الفرنسي من فرساي للهجوم على باريس. وفي مطلع شهر مايو/ أيار، بدأت المدافع تدكّ المدينة، قبل أن يدخلها الجنود في 21 من الشهر نفسه، ويسيطروا تماما عليها بعد أسبوع من الاقتتال المستميت في سبيل الدفاع عن الكومونة. لكنّ الجيش أجهز بوحشيةٍ تامةٍ على الحرس الوطني والثوار، مرتكبا المجازر، من دون التمييز بين امرأة، شيخ أو طفل، حيث لقي نحو ثمانية آلاف حتفهم على المتاريس أو ورميا بالرصاص الحيّ خلال ما أطلق عليه "الأسبوع الدامي"، في حين قتل أعضاء الكومونة المحاصرون نحو 50 رهينة، بينهم قساوسةٌ ورهبان ..