"إلكترا"... تراجيديا الحرب
تعرض منصّة نتفليكس حالياً فيلم "إلكترا"، وهو الروائي الطويل الأوّل لمخرجه اللبناني الأميركي هشام بزري، الذي أنتج نحو 25 من الأفلام القصيرة عُرِضت في مهرجانات عالمية، ونالت جوائز مرموقة. وإلكترا هي إحدى أشهر مسرحيات الشاعر الإغريقي سوفوكليس (496 - 405 قبل الميلاد)، ويعتبر، مع أسخيليوس ويوربيدس، من بين أكثر ثلاثة كتّاب تراجيديا إغريقية شهرة.
تدور أحداث المسرحية عام 410 قبل الميلاد، في مدينة أرغوس اليونانية، عندما يرجع أوريستيس إلى وطنه وقد صار شابّاً قويّاً بعد أن هرّبه مُربّيه ولداً صغيراً حفاظاً على حياته. فقد كانت أمّه كليتمنسترا وعشيقها أيجيستوس قد دبّرا جريمةً قتلا فيها والده أجاممنون، لدى عودته منتصراً من حرب طروادة. أمّا إلكترا، فهي شقيقة أوريستيس التي بقيت تحيا في القصر، في كنف القاتلين، عالمةً بما جرى لوالدٍ كانت تُحبّه وتنتظر عودته سالماً. يدّعي المُربّي أنه قادم من بلاد الفوكيس، وأنه يحمل لملك هذه البلاد وملكتها بشارة مقتل أوريستيس في الألعاب الأولمبية. تفجع إلكترا بهذا الخبر، في حين تفرح كليتمنسترا لأنها تخلَّصت من خوفها أن يأتيها ابنها هذا ليقتصّ منها بقتلها وعشيقها أيجيستوس. وهذا ما يحصل.
اختار هشام بزري هذه التراجيديا إطاراً ليصوّرها في بيروت، التي تعيش أقسى أنواع التراجيديا، فثمّة تجانس كبير في اختيار المضمون والشكل، إذ قسّم الفيلم بين ستّة فصول بعناوين حكّاءة ومعبّرة، وجعل الأحداث كلّها تدور قبل ثورة أكتوبر 2019 بأيّام، في مساحة مغلقةٍ داخل مسرح قصر البيكاديللي (افتتحه وزير الداخلية بيار الجميّل 1965)، الفارغ والمدمّر بفعل الحرب والإهمال والحريق، والذي عُرِف بكونه أوّل صرح فنّي ثقافي في شارع الحمرا، وأحدّ أكثر المسارح اللبنانية أهمّية وأضخمها. يقول بزري عن سبب اختياره البيكاديللي: "اعتقدتْ والدتي أنه من الجيّد لي عندما كنت مراهقاً أن أقضي أيامي في مشاهدة الأفلام. هناك وقعتُ في حُبّ السينما للمرّة الأولى. خلال الغزو الإسرائيلي عام 1982، لجأ ياسر عرفات إلى هناك للأسباب نفسها التي ألجأتني إليه عندما كنت طفلاً. لقد أصبح البيكاديللي، المنسي الآن والخَرِب، يمثّل بيروت التي كانت ذات يوم مليئة بالأمل والتألق".
نحن في مسرح داخل الفيلم، مع كاتبة (ديامان عبّود، رائعة جدّاً في أدائها)، وأربع ممثّلات (فلافيا بشارة، ليزا دبس، منال عيسى، رينا جبّور)، يحاولن طوال ثلاثة أيّام أن يعدن إحياء نصّ قديم داخل مكان شبحي، من خلال الكتابة والتمرّن على أداء بعض المشاهد، وأهمّها قتل كليمنسترا بيد ابنها أوريستيس. الممثّلات يتبادلن الأدوار، لكنّ الكاتبة واحدة، نعيش معها أحلامها وكوابيسها وعلاقاتها السيئة مع الممثّلات، ومن بينهن اثنتان من أخواتها. الصورة داكنة، والكادرات مدروسة، والحركة بطيئة، والكلام قليل، والأداء مقتصد، والمسرح المعطّل المعطوب تعاد مسرحته من جديد، حيث السقف والكراسي المخملية، وغرف الكواليس والدمار، والأوراق الممزّقة والأشياء المتناثرة، تتحوّل ديكوراً، وتضفي رهبةً على الأجواء. هنا جرت حرب. هنا يحيا أناس مدمّرون لن يلبثوا أن يتحوّلوا أشباحاً، ويتحرّكوا كالأشباح، وصولاً إلى ارتكاب جريمة (رمزية) تنتهي بقتل الكاتبة نفسها، وسقوطها فوق خشبة المسرح.
في اللقطة الأولى، حين تظهر الكاتبة، وهي على وشك الدخول إلى المسرح، نسمعها تقول: "هل استغرقت يوماً في أحلام اليقظة؟ أنا فعلتُ. إنه الوقت الوحيد الذي تغمرني فيه السعادة، وأنا أحلم. أحياناً أعجز عن ضبط نفسي، ثم لا أعرف ماذا أفعل". فيلم مثل حلم يقظة متقطّع، مثل كابوس ثقيل عن حرب لا تنتهي، مثل تمارين صعبة على الحُبّ والقسوة وفعل الانتقام تحقيقاً لعدالة ما. فيلم عن بيروت التي تنازع، تتحلّل، وتحلّ فيها الأشباح.