لحم الأسد في مطبخ ترامب

15 نوفمبر 2024
+ الخط -

قيل كثيرٌ في "العنطزة الترامبية"، التي تعكس العيوب المتواترة للرئيس القادم إلى البيت الأبيض، لذا وُصِفت الانتخابات الرئاسية الحالية بأنها الأكثر أهميةً في تاريخ الولايات المتحدة، والأشدّ إثارةً للقلق وللجدل، فدونالد ترامب، الذي يتاجر بالصفقات، نُصِّب في مرحلةٍ تاريخية حرجة، ستعيد رسمَ ملامح المنطقة العربية الملتهبة. وعليه ستنعكس رؤيته الأيديولوجية، المستندة في جوهرها إلى قوة المال في تغيير العالم، في سلوكه السياسي، وهذا بالضبط ما يميّزه عن أسلافه من الرؤساء الآخرين. ومن شأن ذلك أن يخلّف تداعياتٍ مهمّةً في ما يتعلّق بسورية، خاصّة أن بنية نظام الأسد باتت معطوبةً، بعدما انتهت مسرحيته الهزلية في التلطّي خلف سردية الممانعة التي استثمرها وسيلةً للابتزاز والمراوغة، شكّلت ديناميكيات علاقاته مع الدول المجاورة. واليوم، لا قدرة لديه على الاستجابة لأيّ مؤثّر بعدما اختار وضعية السُبات والحرائق تشتعل من حوله. وبشّار الأسد، الذي توقّع فوز ترامب في مقابلة سابقة له مع قناة سولوفيوف الروسية، بدا غير مبالٍ حينها، ربّما لأنه يدرك جيّداً شخصيةَ ترامب المتقلّبة، الذي إن وصف الأسد بـ"الحيوان" الذي يتلقّى دعماً من روسيا وإيران، عاد في مكان آخر ليصحّح: "هو رجل سيئ، لكنّه يجيد قتل الإرهابيين". لا شيء ثابت أو مبدئي في مواقف ترامب، ومن المرجّح أن يبقى نظام الأسد مستمرّاً بأداء دوره الوظيفي حارساً شديد الأمانة للحدود الشمالية لدولة الاحتلال، وهذا سيخفّف الضغط عليه في السنوات الأربع المقبلة، ما لم يصبح عبئاً ثقيلاً بتبدّل المصالح وبروز معطيات جديدة.

وعلى الرغم من تصريحات ترامب إبّان ولايته الأولى (2017 - 2021)، بشأن الانسحاب من سورية، وبوضع جردة الخسائر والغنائم في الميزان الترامبي، فإنّ الرئيس الأميركي الجديد لن يتخلّى عن وجوده العسكري في سورية، نظراً لأهميته الاستراتيجية، إذ سبق وأعلن ضرورة انسحاب القوات الأميركية منها عام 2018، ليتراجع ويوافق على بقائها مدّةً أطول. واليوم يبدو الأمر غير وارد أيضاً، لأنّ انسحابه سيخلّف فراغاً ستستغله على الفور طهران وموسكو ودمشق، لتعزيز نفوذها في المنطقة، ما سيعرقل خطّة سلخ وجه الشرق الأوسط ذي النسخة الحالية، والمبيّتة منذ عقود. على التوازي، ورغم أنّ ولايته الأولى (وكذلك ستكون الثانية)، شهدت أعلى درجةٍ من العقوبات والتضييق على طهران، فسيشدّد ترامب على ضرورة إبقاء المليشيات الإيرانية (نسبياً) في سورية، لأنها جزء أساسي في معادلة الصراع الإقليمي. فلا مكتسبات حقيقية من دون أعداء مفيدين وحيويين يدعمون آلة الدعاية الإسرائيلية. أعداء يحسّنون مواقفها ويجمّلون جرائمها لتحقيق حلمها المُشتهى في إقامة الدولة الموعودة.

عموماً، من المتوقّع أن يكتفي دونالد ترامب، عرّاب الدعم الصهيوني الذي يؤمن بحاجة إسرائيل إلى حُكّامٍ أقوياء ومستبدّين في الجوار يسيطرون على جيوشهم وشعوبهم كي لا يقلقوا راحتها، بدفع تلّ أبيب إلى مزيد من استباحة الأجواء السورية بحجّة اجتثاث الأذرع الإيرانية، وستبقى هذه المعادلة المتوازنة صالحةً لحماية عرش الأسد، طالما ظلّ الصراع تحت السيطرة الإسرائيلية، ما سيدعم خطط نتنياهو للتوغلّ عميقاً في بلاد الشام ضدّ إيران ووكلائها.

يعاني ترامب من شيزوفرينيا متضاربة تبدو مدخلاً مضلِّلاً لقراءة المستقبل السوري

الجدير بنظرة تساؤلية متأمّلة أن تناول الحالة السورية واستشراف مآلاتها القادمة يستند بالمطلق إلى معرفة دقيقة بالطريقة التي يفكر فيها حاكم البيت الأبيض. وللمفارقة، يعاني ترامب من شيزوفرينيا متضاربة تبدو مدخلاً مضلِّلاً لقراءة المستقبل السوري، فشعاراته من قبيل "إنهاء الحروب" مُجرَّد "أفيشات" براقة تقترن بعقلية التاجر الأمّي سياسياً، الذي يعتبر نفسه مركز الكون، فهو جامح إلى حدّ يفوق التوقّعات، وإلى درجة التناقض مع نفسه ومع نهج الدولة العميقة الأميركية وثوابتها الراسخة. لا يتوانى عن شتم الأعداء وإهانة الحلفاء، مصرّحاً، من دون خجل، بأن بلاده لن تدافع عن أحد بالمجّان. وبلغ تناقض ترامب حدّاً عجيباً بصفته بُنيةً مُنتجةً لكلّ "شطحاته" المنفصمة، والدليل عندما كشف رغبته بتصفية بشّار الأسد عام 2017، وعارضه وزير دفاعه آنذاك جيمس ماتيس، عاد ليؤكّد أنه ليس نادماً على عدم قتله.

وفي جذر ما تقدّم ذكره، تبدو لاواقعيةُ انتخاب دونالد ترامب (رغم التشكيك بقدراته العقلية أصبح ثاني رئيس يعود إلى الرئاسة في تاريخ الانتخابات الأميركية) واقعيةً بقدر كافٍ لرؤية الوجه الحقيقي لأميركا. إذ بينما يتحدّث العالم بأسره عن عواصف الشرق الأوسط العاتية، فإنّ طريقة ترامب التجارية التعاقدية ستقوده دائماً للحكم على الأمور الإنسانية، لذا ستُبنَى سياسته في سورية على سلسلة من المحدّدات البراغماتية، باتباع نهج الضغط الأقصى على نظام الأسد، ضمن سياق الإجراءات الرامية إلى منع عودة الحياة الطبيعية إلى سورية، وإثارة أزمات تجعلها مستنقعاً قذراً لكلّ من موسكو وطهران، في مقابل سياسة أكثر تعاونية مع تركيا.

في المقابل، يسود اعتقاد يقيني لدى معارضين سوريين بأن الحزب الجمهوري سيكون أكثر تشدّداً في التعامل مع الأسد، ويتناسون أن ترامب نفسه هاجم سابقاً سياسة إدارة باراك أوباما التي تدعم "أشخاصاً لا نعرف هُويَّتهم"، على حدّ تعبيره، في إشارة مباشرة لهم. كما يتناسون أن الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتلّ حدثَ بمباركةٍ شخصية منه. إذاً، من غير المرجّح أن تُحدث إدارة ترامب تغييراً جذرياً على مستوى التعامل مع نظام الأسد، طالما بقي متعاوناً، ليتحرّك ضمن حدود حصاره دولياً من خلال عرقلة عودة العلاقات السياسية والاقتصادية معه.

لا شيء ثابت أو مبدئي في مواقف ترامب، والأرجح أن يستمرّ نظام الأسد في أداء دوره الوظيفي حارساً لإسرائيل

بطبيعة الحال، وخلال ولايته الثانية، لن يفوّت ترامب مناسبةً دبلوماسيةً أو إعلاميةً لممارسة هوايته المفضّلة في الاستعراض السياسي لقنص ما يتيسّر من المكتسبات والشهرة، تجعله يتسيّد الأخبار العالمية، كما يحبّ تماماً. وبينما يصف بعضُهم شياطين الطمع التي تنطّ في رأس هذا الرجل نفاقاً، ينعته من عرفه عن قرب، ومنهم وزير الخزانة ستيفن منوشين وكبير موظّفي البيت الأبيض السابق رينس بريبوس، بـالأحمق الغبي. فوعوده الانتخابية المثيرة وتعهداته الجادّة ليست مُلزمةَ له، لأنه ببساطة لا يكترث أبداً. أمّا بشّار الأسد، الذي يقف على كفّ العفريت "الترامبي" السادي الغوغائي، القادر على تغيير مواقفه بسرعة مريبة، فسينأى بنفسه عن الجنون المرتقب القادم من البيت الأبيض، ملتزماً (كعادته) الصمت والانتظار. فهو وإنْ وصف الرؤساء الأميركيين بمدراء تنفيذيين لا يختلف بعضهم عن بعض، يدرك أنّ "طأطأة الرأس" هي سياسته الناجعة للنجاة أمام رجل سيقود العالم، بينما لا يسير في مسارات سياسية منطقية ومتناغمة، وقد يتّخذ خطوات غير متوقّعة حسب ما يرتئيه مزاجه الشخصي بكلّ ما يعتريه من تفاهة ونرجسية.

لم يعد أسلوب البائع الثرثار الذي ينتهجه ترامب يخفى على أحد. هو الذي صرّح يوماً: "المتمردون في سورية لا يقلّون سوءاً عن النظام الحالي". وعليه، ماذا يمكن أن يقدّم للسوريين الذين يحتفظون بذاكرة سيئة عنه؟ ... رجل يتباهى بعنصريّته تجاه المسلمين وبعدائه للمهاجرين، ويعتبر "رحيل الأسد أسوأ من بقائه"، لن يشغل نفسه في تحريك الوضع السوري الراكد، ما دامت هذه العطالة السياسية تخدم مصلحة أميركا وإسرائيل معاً، ليتحوّل بموجبها التشرذم الفوضوي الذي يفتك بسورية تدريجياً شكلاً متّسقاً من أشكال التقسيم الوضعي، وصولاً إلى كانتونات مُعترَف بها، لها أنْ تتقاتل في ما بينها ولها أيضاً أنْ تتعايش.