"سورية الأسد" إلى أين؟
لا مجال للاستهانة بخطورة مخرجاتِ شخصية بشّار الأسد العنفية المتلاعبة، لأنّ الأمر يتعلق بحساسيةٍ سياسيةٍ فائضة، فالشعور الخادع بالعظمة والقوة الذي يميّزها ليس صادراً عن عبث، بل عن ثقةٍ مطلقةٍ بأنه محميّ ومُبارك من المجتمع الدولي، ولتذهب سورية برمتها إلى الجحيم. وعليه، لم يتوقف يوماً عن الخداع والمناورة، ليبدو سائحاً سعيداً في خضم المؤتمرات العربية المحتدمة التي ستحدّد مصير بلاده المدمّرة، مطمئناً إلى أنّ عرشه محصنٌ ولن يأخذه منه أحد. من ثم، لا معنى لكلّ محاولات التلطّي وراء الدجل العالمي وقلقه المزعوم على السوريين، فهذا الهراء الإنساني ليس أكثر من تعمية مقصودة وممنهجة عن حقيقة ما يجري، لأنّ المناخ السياسي العام بات مشحوناً بمشاريع ديمغرافية قادمة وسط غياب تام للرادع الدولي.
ومن نافل القول إنّ واقع المنطقة يحكم على نفسه بالنقصان المعرفي سلفاً حين يستبعد حقيقة أنّ سورية لا يمكن أن تكون جسراً لعبور أيّ مشروع إقليمي أو دولي، وإنما هي ركيزة أساسية في تثبيت هذه المشاريع. إذ وبينما تخترع إسرائيل ذرائع الدفاع عن كيانها لخدمة سرديّتها التوسّعية، وبفجاجةٍ مثيرة للغثيان، يبدو العدوان المتلازم على لبنان وتصفية الحسابات "المزعوم" مع حزب الله، مقدّمة لرسم شرق أوسط جديد بوابته دمشق. لا تكون طهران لاعباً مؤثراً فيه إلا إذا تخلّت عن طموحاتها النووية، وابتعدت عن المحور الشرقي. في المقابل، يدرك بشّار الأسد أنّ المنطقة على حافَة تغيير كبير في ميزان القوى، وأنّ نتائج المعركة ستعيد تقييم نظامه، حتّى مع سياسة النأي بالنفس التي ينتهجها، ليقينه العميق بأنّه ليس هناك ما يكسبه من التورّط في اللعبة الخطرة، وأنّ لديه الكثير الكثير ليخسره.
وصل الأسد الابن إلى مرحلةٍ متقدّمة من الاعتلال السياسي في وقت أقصر نسبياً مما وصل إليه طغاة آخرون، وهذا طبيعي ومفهوم، فهو الذي ورث الحكم بأسرع تعديل دستوري في التاريخ، وما زال يظنّ أنه يمكنه مفاوضة العالم لصالحه. يفوته أنه عندما لعب والده على حبال التوازنات والمصالح الإقليمية والدولية كانت سورية في وضع مختلف تماماً، واليوم تبدو عاجزة عن لعب هذا الدور الحسّاس، بعد خسارة أوراق قوتها باستثناء ورقة موقعها الاستراتيجي التي غدت بيد الآخرين، يُتاجَر بها كما يريدون. على هذا، تتشظّى كلّ خطوات الخلاص في نفق اللاحتمية واللامخرج، وهذا مفصلٌ بالغ الخطورة تشهده "سورية الأسد" التي تنطوي بنيتها الاجتماعية على شروخ عميقة ومتجذّرة، ورطتها دائماً في دوامات عنف مدمّرة. فعلياً، يمكن الجزم بأنّ أكبر المخاطر التي تهدّد المجتمع السوري اليوم، المتماسك ظاهرياً بقوة القمع، والمتشكّل وفق مصالح الأطراف المحتلة لها، وليس صيغة المصالح الوطنية، هو الانهيار المفاجئ لنظام الأسد، ودخول البلاد في فراغ سياسي هائل، لن يتوانى عن ابتلاعها.
السيناريو الأسوأ في سورية أن تقوم إيران بإعطاء الأوامر لمليشياتها المتعدّدة الجنسيات في سورية بفتح جبهة الجولان، ومن دون الحصول على موافقة بشّار الأسد
في ضوء ذلك، يحتاج صمتُ بشّار الأسد إلى تحليلٍ واقعي في طبيعته، ورسائله، ونتائجه، بالتوازي مع احتمالية تطوّر الوضع نحو حربٍ شاملة. هو الذي اتخذ وضعية "المزهرية" منذ بدء "طوفان الأقصى"، ولم يطلق تصريحاً يتيماً لصالح الفلسطينيين، بل منع المساجد السورية من الدعاء لهم. تماماً كما أصدر أوامر، بعد اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، بإلغاء كلّ المظاهر التي تدلّ على وجود حزب الله في سورية وإغلاق مكاتب التطوّع فيه. يسوّق للعالم أنّ "أسد الممانعة" مزحة ثقيلة الظلّ، وأنه غيرُ معنيّ أبداً باغتيال قيادات حركات المقاومة، لالتزامه بـتفاهم 1974 (الأمني السرّي) المبرم مع إسرائيل، والذي تضمّن، في بنوده، منع أيّ جهة من استخدام الأراضي السورية لاستهداف إسرائيل، أمنياً وعسكرياً.
رغم هذا، ستكون سورية، شعباً ونظاماً وجغرافيا، في عين العاصفة اللبنانية بالتأكيد، خاصة أنّ حزب الله، بعد دخوله سورية عام 2012، أسهم في إقامة مؤسّسات موازية للمليشيات المؤيدة للنظام. قوات مسلحة مستقلة، مشحونة بالطائفية والتطرّف، مزقت أحشاء دولة أنهكتها الحرب، والغاية المبيّتة تمكين سطوته العسكرية والسياسية والعقائدية داخل سورية. يعكس هذا قدرة إيران على تحريك هذه الأدوات واستخدام شروط القوة في المفاوضات عند الضرورة، لرغبةٍ منها في الحفاظ على مكتسباتها واستثماراتها طويلة الأمد في المنطقة، وبتر حالة القلق المزمن من مسار التطبيع العربي والتركي المحتمل مع النظام رغم هشاشته. ما يطرح السؤال الجوهري: هل ينقذ الصمتُ بشّار الأسد الذي يسير في حقل ألغام، وما هي قدرته الفعلية على انتهاج سياسة "الحياد المفيد" تجاه التصعيد جنوب لبنان بعدما نقلت الإمارات تحذيرات إسرائيلية له بالابتعاد عن الحرب، وفق ما ذكره موقع أكسيوس الأميركي؟.
بالتساوق مع ما تقدّم، لم تتبنَّ إسرائيل جدّياً خيار إسقاط نظام الأسد، ورغم أنّها غضّت الطرف عن التوسع الفارسي في المنطقة، اعتبرت تحرّك "محور المقاومة" ضدها انتهاكاً خطيراً لقواعد الاشتباك المنضبطة بينهما. إلى ذلك، قد يبدو أنّ دمشق وطهران في الخندق نفسه، وهذا ليس صحيحاً بالمطلق، فقد نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مسؤول أمني سوري وآخر أوروبي أنّ بشار الأسد أبلغ إيران رفضه الانجرار إلى حربٍ شاملة مع إسرائيل. والسؤال الوضعي الآخر هنا: هل ينقلب الأسد على حليفه الإيراني إذا امتلك الخيار، خاصة بعد استهداف إسرائيل "فيلا" ماهر الأسد، واعتبار هذا الاستهداف قرصةً موجعةً لرجل إيران الأول في سورية؟. الاحتمال وارد، رغم التخوّف من خاتمةٍ شبيهة بالرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، الذي قتلته جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً، بعدما انقلب عليها.
خيارات الأسد محدودة، وترتبط بالانكفاء والترقّب في محاولةٍ لتحييد عرشه عن طاولة الملفات الإقليمية الملتهبة
على التوازي، ثمّة معطيات هامة تُطرح بقوةٍ في سياقنا، وتعزّز صوابية سياسة "الصمت المطبق" للأسد، وإدراكه أنّ أيّ خطأ في الحسابات يعني أن الثمن رأسه حُكماً. أهمها قرار "الحياد" لدول عربية عديدة، والذي سيبقى على حاله حتّى لو تعقدت الأمور، لقناعتهم أنّ حزب الله يحصُد ما زرعه في المنطقة باسم طهران، بينما من الممكن دفع الأخيرة وتل أبيب نحو تفاهماتٍ أميركية تقلب الطاولة، وتفاجئ الجميع. أما الروس الذين يتوجّسون من امتداد التصعيد إلى سورية بعد فشلهم في إنضاج حلول سياسية تضمن بقاء الأسد عقوداً أخرى، فيبدو التفاهم جلياً بينهم وبين الجارة المعتدية، من خلال سلاسة (ودقة) تنفيذ الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في سورية، ما يعكس الانتقائية العالية على إبقاء الروس بعيدين عن أيّ استهداف أو استفزاز.
يكتنف الغموضُ مستقبلَ سورية "الأسد": أهو "العقاب" لتبنّيها محور المقاومة أم "الثواب" المرتبط بالحياد؟. وأمّا ما يخص الأسد نفسه، فخياراته محدودة، وترتبط بالانكفاء والترقّب في محاولةٍ لتحييد عرشه عن طاولة الملفات الإقليمية الملتهبة، مع توسيع هوامش مناورة الحلفاء، والتماهي بحذر شديد مع متطلبات التطبيع للحيلولة دون فقدان تحكّمه في المشهد السوري. وبحسب باحثين، السيناريو الأسوأ، على الإطلاق، توجيهُ إيران ضربة قاضية لنظام الأسد "المتلاعب" بإعطاء الأوامر لمليشياتها المتعدّدة الجنسيات في سورية بفتح جبهة الجولان، ومن دون الحصول على موافقة بشّار الأسد. حينها، ستعتقد إسرائيل بعدم جديّة الأخير في إحكام السيطرة على دولته "المليشياوية" التي ستشكل تهديداً مباشراً على أمنها القومي، ومن ثم، سيصبح خيار خلع الأسد، لفتح الطريق أمام نظام جديد يعيد تشكيل دولةٍ سورية صافيةٍ من السموم الإيرانية، مطروحاً وبقوة.