في الفساد والتضادّ بين الحكومة والحكامة بالمغرب
هناك شعور عام في المغرب بأن الروح الرياضية قد سرت في مفاصل مؤسسات الدولة وتعبيرات المجتمع، يمكن إجمالها في وجود نوع من "الإقصائيات" و"المنافسات" بين المؤسّسات الحكومية وأذرعها السياسية والبرلمانية ومؤسّسات الحكامة المتجسّدة في شخصيات رؤسائها. ولعل العنوان الأبرز له، منذ تشكيل الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومع تزايد الاختناق الاجتماعي وتفاقم الشرطية الاقتصادية (كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا وغلاء الأسعار) هو النقاش الذي دار بين وزراء وبرلمانيين، أمثال وزير الصناعة والتجارة رياض مزور والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة، والوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، والناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس ورئيس مجلس النواب رشيد الطالبي العلمي، من جهة، ومدراء مؤسسات الحكامة، سيما في الشقّ المتعلق بالتسيير المرتبط بالمالية العمومية أو أهداف الاقتصاد الوطني أو ذات الصلة بتخليق الحياة الوطنية وأذرعها المؤسّساتية، من قبيل أحمد الحليمي المندوب السامي في التخطيط، أحمد الحليمي، ومدير بنك المغرب المركزي، عبد اللطيف الجواهري، ورئيسة المجلس الأعلى للحسابات، زينب العدوي، ورئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بشير الرشيدي، من جهة أخرى.
وإذا اكتفينا بأحدث نموذج من التراشق والمُسايَفة الإعلامية في المغرب، متمثلا في مجريات الحدث الذي عرفته قبة البرلمان، في جلسة عمومية لمناقشة تقرير المجلس الأعلى للحسابات في الأسبوع الماضي، نراه جديرا بالتأمل، لما له من رمزية في الهندسة الدستورية للبلاد وفي اتخاد القرار بها. ووجب التمييز منذ الانطلاقة بأن الأمر لا يتعلق بمناقشة عمل المجلس الأعلى للحسابات ونقده في المطلق، من المهتمين والسياسيين والموالين أبدا، بل هو هنا مقتصرٌ على مناقشته من رئيس مجلس النواب مؤسسة، وتعقيبا على تقديم التقرير داخل المِؤسسات ذاتها. وفي هذا، نذكر أن رئيس مجلس النواب اعتبر "أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات تصوّر البلاد كلها فسادا، وأنه يصدر تقارير عن الاختلالات فقط، ولا يتحدث عن كل الأشياء الجميلة الأخرى".
من حيث الشكل والظاهر، نحن أمام مواجهة بين البرلمان، في شخص من يمثله من الأغلبية الحكومية، وهيئة عليا لمراقبة المالية العمومية في المملكة تخضع للتعيين من ملك البلاد. وعليه، نحن أمام تضادّ تتواجه، بمقتضاه، مؤسّسة تستمد سلطتها الدستورية من الانتخابات كما تحدّدت في دستور المغرب، باعتبارها الشكل الأرقى للسيادة الشعبية، ومؤسّسة ثانية تمتد سلطتها من دَسْترتها كذلك!
الشراكة الدستورية تجعل المجلس الأعلى للحسابات يرفع إلى الملك تقريراً سنوياً، يتضمّن بياناً عن جميع أعماله
وفي حقيقة الشيء المتفرع عن دستور 2011، وهو المرجع في تمكين كل مؤسّسة بوظائفها في تنشيط الحياة الديمقراطية، نجد أن الفصل الثاني، الذي يحدد طبيعة نظام الحكم في المغرب، ينصّ بوضوح على أن "السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. (وأن الأمة) تختار ممثليها في المؤسّسات المنتخبة بالاقتراع الحرّ والنزيه والمنتظم".
وفي الأصل الديمقراطي، نجد أن الانتخابات نجم عنها إكراه مزدوج، تمثل في أن الملك يختار رئاسة الحكومة بناء على نتائجها (الفصل 47)، ولا يمكن وضع حد لمهامها إلا بانتخاباتٍ سابقة لأوانها عبر حلّ البرلمان (الفصول 51 و96 و97 و98). وتعطي هذه الصلاحيات لفائدة التمثيلية الانتخابية المتحدّث باسم واحدة من مؤسّساتها القوية (البرلمان) شرعية الحديث باسمها، ولكنها، في الوقت ذاته، تحدّد شكل الجزء الظاهر والأكثر تداولا إعلاميا من الحياة السياسية، كما أن الطبقة السياسية عندما تتحدّث ضمنا أو صراحة باسم هذه الشرعية، فهي تدافع عن أحقّيتها بممارسة السلطة، لأنها تمر عبر الانتخابات إلى هذه السلطة! وفي مقابل ذلك، نجد أن تقوية مركزية الانتخابات في هندسة مؤسّسات القرار في المغرب لم تضعف سلطة التعيين، بل ينصّ الدستور الحالي على إنشاء عشر مؤسّسات (الفصول من 162 الى 170)، ولا يكون التعيين فيها حصريا للملك، بل تكون للأحزاب تعييناتٍ فيها، غالبا ما تكون على قاعدة ذاتية داخلية، وليس بالضرورة في علاقة بـ"الدستورانية" المتجرّدة. وفي الفصل الثاني، تقوم الحكامة على المبدأ الدستوري نفسه أيضا باعتبار أن المجلس الأعلى للحسابات، (هو هنا نموذج المطارحة مقابل البرلمان)، يقوم على "مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية"، وهو امتداد للمبدأ ذاته الوارد في الفصل الأول من الدستور، والذي ينص على "ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتفعيل مبادئ الحكامة الجيدة".
هل أخطأ رئيس مجلس النواب الطالبي العلمي، وهل أصابت رئيسة المجلس الأعلى للحسابات في الكشف عن عيوب مثيرة داخل المؤسسات المنتخبة، وفي صرف المال العام الممنوح للأحزاب، زينب العدوي؟ سبق أن أجاب عن السؤال مسؤولون حزبيون مغاربة، أن مطاردة الفساد يجب أن تذهب أبعد من المؤسّسات التي تنتمي الى دائرة الانتخابات، أو ذات الصلة بها، وأن يشمل كل مَواِطن السلطة والقرار. وهي مسلكية نشاز أصبحت كثيرة تعطّل المواطنة، كما تعطل الاستثمار وتفسد الانتخابات، كما تلغي الصفقات وتُرْعش يد الدولة كما تهزّ روح المجتمع. والمطلوب في الحالة هاته الخروج من الانطباعية التي عبر بها رئيس البرلمان (كما لو …) والدخول في نقاشٍ مؤسّساتي دستوري، عميق، ويحدّد التطورات التي حصلت والتدقيقات التي يجب أن تحصل في ممارسة مهام المراقبة والمحاسبة. ومن ذلك تفعيل الشراكة الدستورية بشأن ملفّاتٍ ترتبط فيها المسؤولية بالمحاسبة: إذ هناك علاقة وطيدة في المبدأ وفي الفعل بين البرلمان (وهنا يمثله مجلس النواب) والمجلس الأعلى للحسابات بمقتضى الفصل 148 الذي ينصّ على أنه "يقدّم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة"، كما أنّ الشراكة الدستورية تجعل المجلس الأعلى للحسابات يرفع إلى الملك تقريراً سنوياً، يتضمّن بياناً عن جميع أعماله، تماماً كما "يوجّهه أيضاً إلى رئيس الحكومة، وإلى رئيسي مجلسي البرلمان، وينشر بالجريدة الرسمية للمملكة".
على البرلمان أن يستظلّ بالشراكة الدستورية نفسها في طلب المساعدات في الباب الذي يريده
ومن حيث إن المجلس الأعلى مُطالبٌ بهذه الوظيفة، على البرلمان أن يستظلّ بالشراكة الدستورية نفسها في طلب المساعدات في الباب الذي يريده. وهنا نتساءل: هل طالب البرلمان (كما الحكومة المنبثقة عنه) بأعمالٍ ما في مجال المهمّة والاستقلالية الممنوحة له؟ وهذا سؤالٌ فيه الجواب عن الاستنكار الواضح لرئيس مجلس البرلمان. ويمكن أيضا أن يكون هذا السجال عتبةً لنقاش عن تعديلٍ دستوري، لماذا لا يكون البرلمان مصدره، بحيث تزول مناطق الظل والعتمة في المهام التي تهمّه، كما تهمّ مؤسّسات الحكامة الأخرى، وهي نقطة أقرّ بها تقرير النموذج التنموي الجديد الذي طلبه الملك، وكانت من توصياته الحاجة إلى توضيح العلاقة بين الحكومة والديوان الملكي، أي بين الانتخابات والتعيين في تسيير القرار الوطني.
لكن من كل عناصر العلاقة بين المؤسستين، اكتفى رئيس مجلس النواب بـ"المناقشة البعدية بعد تقديم التقرير"، كما هو منصوصٌ عليها حرفيا بالقول "يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة". والحال أن الأمور تسير بشكل مخالف وتتطلب الملاحظات التالية:
ـ مؤسّسات الحكامة التي يدور حولها النقد الحكومي والسياسي هي في الغالب تلك التي لا يوجد فيها ممثلون عن هذه الأحزاب (بنك المغرب، المندوبية السامية للتخطيط، المجلس الأعلى للحسابات)، وربما يجدر بموجب الديمقراطية أن يُطرح الموضوع بهذا الوضوح والشفافية.
كان دستور 2011، في المغرب، في جانب مفهوم المسؤولية وربطها بالمحاسبة، قطيعة في معنى الانتخابات
ـ الانطباع الذي يعطيه المنتخبون ومؤسّساتهم بالتعقيب على عمل المحاسبة وتقارير الشفافية، ولو فيها ما يخيفهم، سواء كبر ذلك أو صغر، يضعهم في فوّهة الاستغراب الشعبي، والأكثر من ذلك إعطاء الانطباع بأن تفعيل الدستور أكبر من النخب السياسية الحالية أو أن هذه الأخيرة تبني أسوارا عالية في وجه محاربة الفساد.
ـ الانطباع بأن تسجيل (حقّ) قصور العمل "المجزوء" لدى مجلس الحسابات واختزال الفساد في المؤسّسات المنتخبة، يراد به (باطل) التغطية على المفسدين من داخل البنية التقنوقراطية السياسية التي تمثلها نخبة مجالس الحكامة. والأنكى أن السياق الحالي (متابعة سياسيين برلمانيين ورؤساء جماعات) تزامن مع عملية متابعة كبيرة، ومن حجم كبير في القضاء والمحاماة. ومع إصدار قانون محاربة الفساد، والذي اعتبر رئيس الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، البشير الرشيدي، أن العاهل المغربي، محمد السادس، نزل بكل ثقله لكي يخرج هذا القانون إلى حيز الوجود، وهو ما يجعل التصريحات التي تدعو إلى تقزيم عمل المجلس الأعلى للحسابات تصرّفات تفهم في غير محلها، علاوة على أنها تقتضي صدقية المصرّح بها قبل صدقيّتها السياسية أو جرأتها. ومن يطالب بتعميم محاربة الفساد ليس مثل الذي يعتبر الحديث فيه خدمة لأعداء للبلاد! ولرئيس مجلس النواب، الطالبي العالمي، الحق في أن يطلب من المجلس، بمقتضي الدستور، أن يوسّع من دائرة عمله. وليس تقليصه حتى لا تسود صورة الفساد السرطاني. وإنه لَمِن أسباب العلاج والنزاهة وعدم التداخل أن يوسّع المجلس من عمله أكثر فأكثر، وهو مطلبٌ في الصميم، رفعته الأحزاب السياسية التي تريد بالفعل محاربة الفساد، ووضعت له مشاريع قوانين، كما هو حال مشروع محاربة الإثراء غير المشروع الذي ما زالت الحكومة تُماطل فيه.
كان دستور 2011، في جانب مفهوم المسؤولية وربطها بالمحاسبة، قطيعة في معنى الانتخابات. ولعل من أقوى معانيه تكريس مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. ولعل الأعمق في التجربة الطريقة التي تمت بها إعادة بناء الهندسة المؤسّساتية للدولة، على قاعدة الانتخابات في تعايشٍ مع التعيينات التي لا تعدّ بالضرورة متناقضةً معها. ولعل الغائب، في النقاش الحالي، هو البعد الدستوري في تعبئة المجتمعين، السياسي والمدني، ضد الفساد وفهم الطريقة المثلى في تمفصل الجهازين معا، الحكومة والحكامة، في محاربته، فالتعيين في الهندسة الجديدة لا يقتل السياسة، لكن الفساد يقتلها ويقتل الحكامة معها!