يومي الأخير في بكين
في المترو المكتظّ أكثر من المعتاد بالأطفال الأصحّاء ذوي الوجنات الوردية الممتلئة، وذويهم المحتفلين بالإجازة الممتدّة أياماً بمناسبة عيد العمّال، المتجه بنا من ضاحية داسنغ الوادعة الجميلة في مقرّ إقامتنا في بكين إلى معبد السماء الذي تم بناؤه عام 1420، ويحجّ إليه الصينيون، ليس بداوفع دينيةٍ روحانيةٍ، وإنما لتمضية الوقت في حديقته الكبيرة بديعة التصميم، وقد أحضروا زوّاداتهم من الأطعمة والمشروبات، مفترشين العشب، فيما الأطفال يتراكضون حولهم في بهجة، وكذلك الاستمتاع بتأمل مشهد المعبد المهيب، واسمه الأصلي "مذبح قرابين السماء والأرض"، وهو المكان الذي كان أباطرة الصين في فترة أسرتي مينغ وتشينغ يعبرون إليه قادمين من المدينة المحرّمة لتقديم القرابين لآلهة الحصاد. كنتُ أستمع لشرح صديقتي الصينية الشائق عن تاريخ المكان، وأنا أحاول ألا أحدّق بشابٍّ يبدو أنه يعمل في مجال ترفيه الأطفال، لأنه كان يرتدي زيّ حيوان ما، أظنّه ثعلباً بسبب الذيل الطويل الذي كان يعيق حركته في زحمة المترو الخانقة.
لم أستطع كتم ضحكتي وأنا أقول للصديقة: هل كان مضطرّاً لارتداء الذيل والتجوّل به في المترو؟ ألم يكن بإمكانه فعل ذلك عند وصوله إلى مقرّ عمله؟ ما لفت نظري أن الشاب صاحب الذيل الطويل والشعر المستعار والوجه الملطّخ بالأصباغ لم يلفت نظر أحد، وكأنه مشهد عادي روتيني، لا يبعث على التعجّب. تنبهت إلى أن الأنظار، خصوصاً الأطفال، مصوّبة نحوي بشكلٍ مربك. كانت مفارقة عجيبة بالنسبة لي، حين طلب أحدهم التقاط صورة معي، وتكررت الطلبات التي لبيتها وأنا مستغربة لدهشتهم الكبيرة أمام ملامحي العادية، وكأني مخلوق غريب هابط من الفضاء، فيما الرجل صاحب الذيل الطويل يقف متّكئاً على عمودٍ بكل رصانة وكبرياء يقرأ شيئاً ما على هاتفه الجوّال.
ظلّ طفلٌ لم يبلغ العاشرة يحدّق بي بريبة واستغراب شديدين. همَس لأمه بعبارة ما من دون أن ينزع نظراته عني. قالت له أمّه شيئاً يبدو أنه بعث الطمأنينة في نفسه، تخيّلت أنها أخبرته أن هناك بشراً آخرين يتشابهون كثيراً، بحيث لا تستطيع تمييزهم عن بعضهم، وهم لا يشبهوننا لكنهم غير مؤذين ولا يعضّون!
ضحكت صديقتي حين أخبرتها بالسيناريو المتخيّل. قالت إنهم ببساطة يحبّون شعرك الأجعد. والصينيون عموما يحبّون الأجانب، ويرغبون في التعامل معهم، لكنهم لا يملكون أدوات التواصل، إذ لا يتقن معظمهم سوى الصينية. هذا ما يزيد عزلتهم رغم التوجّه الرسمي للانفتاح على العالم ثقافياً. وافقتها على ضرورة ذلك، بعد أن سمحت لي الإقامة مدة كافية بالاطلاع على الإنجازات الكبرى في مجال التكنولوجيا والصناعات الثقيلة والتصميم المعماري وتنظيم المدن وتنمية الريف وتمكين الشباب. لم يكن ذلك سهلاً في دولةٍ كان اعتمادها على الزراعة بالدرجة الأولى، غير أنها تحوّلت في زمن قياسي إلى دولة صناعية عظمى، حين سألت صديقتي عن واقع المرأة في الصين، وهل ثمّة خطط تمكينية خاصة بها؟ أجابت: تجاوزنا ذلك منذ زمن، تحظى المرأة بالمساواة التامة مع الرجل، وتتقلد المناصب الرفيعة في الدولة وفي القطاع الخاص، وتؤدّي دورها في حركة النهضة بكل فعالية. كما يحظى الطفل الصيني بأفضل فرص التعليم والرعاية.
إنجازاتٌ كبرى لا يمكن سوى الانبهار بها وعقد مقارنات مؤلمة لا بد منها مع عالمنا العربي المحزن بكوارثه، من حروب ونزاع وتخلف وفساد وظلم وتراجع على كل الأصعدة، عالم اتّكالي مؤسف غير طموح وغير راغب في التغيير الحقيقي، محتفظ بخطابه الاستعلائي غير المبرّر وأوهامه البلهاء بالتفوق المعرفي. كان عليّ وقد وصلت إلى حيث معبد السماء أن أتوقف عن أفكاري السلبية، وأن أتيح لنفسي فسحة أخيرة قبل الرحيل للتزوّد بتفاصيل الجمال والعراقة والفن والأصالة في جنبات معبد السماء، حيث تقطن كل أسباب الدهشة.