يوسف حسين وقناته التنويرية
بالتزامن مع ثورة الاتصالات التي اكتسحت العالم في السنوات العشرين الأخيرة، وما ترتب عليها من سهولة الحصول على المعلومة، تراجعت أهمية الكتاب مصدرا أساسيا للمعرفة، ولم نعد نتباهى بمقتنياتنا من أمهات الكتب الثمينة، وأحدث الإصدارات من روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية وكتب فكرية فلسفية. تخففنا من عبء إعارة الكتب إلى الأصدقاء الذين لا يعيدونها بذريعة أن السطو على الكتب مشروع. وزاد تذمر دور النشر من تراجع الإقبال على الشراء، ما تسبب بانتكاساتٍ مادّية خطيرة، قد تودي بها. كما فقد الكتّاب شهية إصدار الكتب، ذات الأغلفة الأنيقة المعتنى بها، وتبدّد وهج حفلات توقيع الكتب في معارض الكتب التي كانت تقام دوريا في عواصم عديدة، تقليدا حضاريا ثقافيا يتيح للقراء الالتقاء بكتّابهم المفضلين، والحصول على نسخ ممهورة بإهداء خطّي بقلم الكاتب نفسه. أصبحت قراءة الكتب عادة قديمة مقتصرة على النخب، ممن يمكن اعتبارهم ندرةً قليلةً ظلّت متمسّكةً بالصيغة التقليدية في تلقي الفن والمعرفة، ولم تفقد علاقتها بالورق، فيما استعاضت الأكثرية بما وفرته إمكانات ثورة الاتصالات من آفاق معرفية واسعة جديدة وسهلة، متوفرة للجميع. وبمجرد كبسة زر ليس أكثر، خسر معظم الكتاب عناصر تمييزهم ونجوميتهم، وتطاول جهلاء على الصنعة، فاستسهل كثيرون منهم نشر محتوياتٍ ضحلة سطحية فارغة، من خلال إنشاء قنوات خاصة بهم على "يوتيوب"، لا يكلف إنشاؤها بذل أي جهد. وعمّت الفوضى، واختلط الحابل بالنابل، وضاعت الطاسة، وفي ظل هزيمتنا الحضارية المدوية، تشكل هذا المشهد السوريالي المقلق.
ما يبعث على الأمل انطلاق بعض القنوات التنويرية المختلفة، ذات المحتوى المثقف والعميق، والتي أخذت على عاتقها تحرير الوعي العربي، فاستقطبت أعدادا هائلة من المتابعين، جلهم من الشباب. إذ اختصرت عليهم الوقت والجهد الذي تتطلبه القراءة بشكلها التقليدي، لعل أبرزها قناة المثقف اللبناني المبدع، يوسف حسين، النوعية ذات الطرح الهادئ والمحايد. قناة صغيرة، بإمكانات تقنية بسيطة، يترقبها ويتابعها آلاف من المهتمين في مختلف أنحاء العالم العربي جيل عربي جديد، متعطّش للمعرفة الحرة المنفلتة من قيود الإعلام الرسمي. يساهم هؤلاء بتعليقاتهم ونقاشاتهم وتفاعلهم الحيوي في إثراء المادة التي يقدّمها يوسف، ويثنون باستمرار على إخلاصه وجده اجتهاده، وحرصه على تقديم المعلومة بموضوعية وحرفية تستحقان الإعجاب والتقدير. قدّم اللبناني المتمكّن من أدواته، يوسف حسين، محتوى قناته الاستثنائي بأسلوب مبسّط مكثف، وبلغة عربية فصحى، وصوت هادئ رزين، في مدةٍ لا تتجاوز الثلث ساعة لكل حلقة، فعرّف متابعيه على أعلام الفلسفة الإغريق، مثل أفلاطون وسقراط وأرسطو، وقدّم حلقاتٍ في غاية الأهمية، تناول فيها سير العظماء، أمثال باروخ سبينوزا وكبير الفلاسفة إيمانويل كانط وإدغار ألن بو وديستوفسكي. كما خصص حلقات مثيرة تناولت الحضارات والأديان والمذاهب، مثل الحلقة عن قصة زرادشت والمجوسية، مستعرضا أبرز المحطات والعقائد والطقوس فيها. وفي حلقة أخرى، شرح بأسلوب شائقٍ ممتع أسرار المانوية وفلسفتها، وسرد سيرة حياة ماني البابلي، الحافلة بالمأساة والتأمل والسعي إلى الخلاص عبر مكابدة النفس. وكذلك تطرق إلى مفهوم الحياة بعد الموت وعالم الآخرة في الحضارات الآسيوية والحضارات القديمة، مثل السومرية والفرعونية. كما قدم يوسف حسين سلسلة قيمة تناولت شخصيات وقضايا عربية وإسلامية، مثل حلقة عبد الرحمن الكواكبي و"طبائع الاستبداد"، وأخرى عن آخر صفحةٍ من تاريخ الأندلس، وأيضا مدخل إلى مقدمة ابن خلدون، وغيرها من عناوين كثيرة متميزة.
ينوّه يوسف حسين دائما إلى أن محتواه محاولة متواضعة لتبسيط الأفكار بلغة سهلة، بعيدا عن المصطلحات المعقدة والصعبة. الهدف منها إيصال الفكرة إلى كل الناس، وهو ليس أطروحات أكاديمية أو أبحاثا فلسفية أو علمية موجهة للمختصين. وهذا طرح يدلّ على مدى تواضع هذا الرجل العاشق للمعرفة، صاحب المشروع التنويري، الجاد والعميق والثري والمتنوع، الجدير بالإشادة والتقدير والمتابعة.
تحية كبيرة ليوسف حسن، وكل الشكر لوجبات المعرفة الدسمة التي يقدّمها لمتابعيه الكثر على طبق من حب وسخاء وشغف.