يفشل نتنياهو وينجح أبو يائير
لا تتحدّث هذه الأسطر عن شخصيْن، ولا حتى عن شخصية رواية واحدة ذات وجهين ودورين مزدوجين، وإنما تدور، في الجزء الرئيس منها، عن لاعبٍ سياسيٍّ واحد اسمه بنيامين نتنياهو. يُطلق عليه مريدوه، في أوساط اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ألقاباً تفيض إعجاباً به وانبهارا بأدائه، مثل الساحر والملك والداهية، فيما يقذفه الخصوم الأشداء في محيطه، وهم كثر، بأوصافٍ ذميمة، مثل الكذّاب والمخادع والفاسد، خصوصاً منذ بات الثعلب الماكر متّهماً بثلاث قضايا جنائية، كافية لإنهاء حياته السياسية، وربما إيداعه السجن.
في الأسبوع الماضي، فشل نتنياهو، بكل ما لدى الحاوي من أرانب متبقية في القبعة، وللمرة الرابعة على التوالي في عامين، في تحقيق أغلبية برلمانية تتيح له البقاء رئيساً للحكومة، ليس فقط من أجل إشباع نهمه للسلطة، وإنما أيضاً بغرض الهروب من المساءلة القضائية فترة إضافية، يحاول، في غضونها، انتزاع تشريعٍ يحول دونه، كونه رئيس حكومة، والمثول أمام محكمةٍ تعلّق في عنقه تهم الفساد والغش وخيانة الأمانة. غير أن القصة لا تنتهي هنا، ولا يختتم نتنياهو لعبته الانتخابية المتكرّرة عند هذا الحد الذي انتقل فيه "الساحر"، المرّة تلو الأخرى، من مفهوم أن السياسة فن الممكن إلى مفهومٍ لا سابق له، أن السياسة فن المستحيل، حيث فشل، في الدورة الثالثة، في تحقيق الأغلبية البرلمانية، إلا أنه نجح في قنص وتفتيت جبهة خصومه من ائتلاف الجنرالات المعروف باسم "أزرق أبيض"، وأنهى بذاك أول تهديد جدّي بإخراجه من السلطة.
وها هو لاعب الأكروبات في السيرك السياسي الإسرائيلي يعيد المشهد ذاته في الدورة التي انتهت، أخيرا، بفشل انتخابي محقّق، قد يفضي إلى انتخابات خامسة، إلا أنه نجح، في المقابل، فيما بدا أنه المستحيل بعينه، في شق جبهة خصوم أشد عداوة له من جبهة الجنرالات المشار إليها، أي القائمة العربية المشتركة التي كان نجاحها الباهر، في الدورة ما قبل الأخيرة، بمثابة حائط الصدّ المانع دون حصول نتنياهو على الأغلبية البرلمانية اللازمة.
إذا كانت هناك مفاجأة يُعتدّ بها في الانتخابات الرابعة هذه، والتي أوصلت نتنياهو إلى الطريق المسدود ذاته، فهي هنا بالتمام، أي في هذا النجاح الصادم حقاً في إخراج القائمة الموحدة (الحركة الإسلامية)، وهي إحدى مركّبات القائمة العربية المشتركة (تحالف الوطنيين والقوميين واليساريين)، وبالتالي إحداث انقسامٍ لا شفاء منه في الوسط العربي المُجمع، بطبيعة الحال، على مقاومة التمييز والأسرلة والإجحاف، ومن ثمّة إيجاد تداعياتٍ سلبيةٍ بعيدة المدى على الحالة الفلسطينية في النطاق الأوسع.
لم يكن هذا المشهد الانقسامي المخجل ابن ساعته الأخيرة، بل كان تتمةً لمسعىً تضليلي دؤوب، قام به نتنياهو، من تحت الطاولة ومن فوقها، لاستمالة القائمة الموحدة بالوعود والتعهدات التي تخاطب احتياجات الجماهير العربية الفلسطينية ومطالبها المحقّة، بما في ذلك الاستجابة لحل مشكلات السكن والميزانيات، ومقاومة آفة العنف والجريمة، وكل ما من شأنه تسويغ انشقاق القائمة الموحدة التي لم تتعظ مما جرى مع الجنرال المخدوع، بيني غانتس، قبل أشهر، وبالتالي تبرير هذه الفعلة الانقلابية المشينة أمام قاعدتها الانتخابية، المؤمنة بقانون السمع والطاعة.
أدهى من ذلك كثيراً، وأمرّ منه أكثر، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذي بنى الجزء الرئيس من قوته الانتخابية على خطاب التحريض والكراهية ضد العرب، لم يكتف بجذب القائمة الموحدة نحوه، بل راح يتودّد للناخب العربي بصورة مبتذلة، أو قل يضحك عليه ما أمكن، حيث زار الفاشي المحرّض مدنا وبلدات عربية، ومضارب البدو خصوصا، متقرّباً ومستجدياً أصوات ناخبيها، مطلقاً على نفسه لقب "أبو يائير"، نسبة إلى ابنه الأكبر، في مشهدٍ مُضحكٍ حد البكاء، خصوصا عندما ترى صورة جدارية لزعيم الليكود معلّقة على مداخل البلدات العربية، مع شعار "كلنا أبو يائير".
وهكذا تتخلّق هذه المفارقة العجيبة، وتتجلّى معها أشد السوابق المثيرة للعواطف الوطنية، والأحزان فوق الشخصية، ونعني بها تلك المفارقة التي تخفق فيها جهود نتنياهو على الجبهة اليهودية، مرّة إثر مرّة، فيما تنجح مساعيه الخبيثة في المرور على الذقون الناعمة، وفي تحقيق نجاحاتٍ مدهشةٍ، ومؤلمةٍ في الوقت ذاته، بما في ذلك إدخال حصان طروادة داخل أسوار القلعة العربية الفلسطينية التي باتت اليوم، بفعل فاعل معلوم، ومع الأسف، متضعضعة.