مثلث النرجسية والرغبوية والنزعة العدوانية
بين جملة طويلة من النواقص والعاهات والإعاقات التكوينية الغائرة عميقاً في تلافيف العقلية الإسرائيلية السائدة، تتجلّى، في هذه الآونة، ثلاث خاصّيات فكرية مهيمنة في معظم المفاهيم المسيطرة بقوة على الخطاب السياسي والإعلامي الرائج، ولا سيّما منذ "طوفان الأقصى"، والمُستحكِمة أيضاً في المجال العبري العام، بما في ذلك المداولات والنقاشات المُحتدِمة داخل مختلف أوساط الطيف الحزبي، بين اليمين الصهيوني المُتطرّف واليمين القومي الديني الأكثر تطرّفاً، إذ لا يكاد المراقبُ للسجالات الصاخبة في الصحافة والاستديوهات أن يعثر على صوت يُغرِّد خارج هذا السرب المُحلِّق في مدار مُغلق على نفسه.
في هذه العجالة، نُكثّف الضوء على أبرز ثلاث إعاقات كامنة في أرضية هذه المفاهيم المُشوَّهة، أوّلها عاهة النرجسية المُفرِطة، المُفضية بالضرورة الحتمية إلى فضاءِ الغرور الفجّ والسعار والامتلاء بالاستعلاء والغطرسة، والمفتوحة من ثمّ على دروب التمييز العنصري، والفظاظة في الأقوال والأفعال، والإفراط في العنف والتطرّف، ناهيك عن الميل الدائم إلى الإنكار والتعصّب والانفصال عن الواقع، وحدّث ولا حرج عن المبالغات والافتراضات والرهانات القائمة على مبدأ القوة الغاشمة، وعمى الإعجاب بالنفس، وانعدام الرؤية الموضوعية.
ولعلّ عاهة النرجسية هذه، النابعة أساساً من نشوة الانتصار المُدوّي في حرب 1967، هي جذر الداء العُضال، الذي لم تُشفَ منه الذهنية الإسرائيلية في مدى العقود الطويلة الماضية، إنْ لم تكن هي السبب الأوّل لحالة الجنون العامّة الطامّة، التي غشيت القوم صباح سبتهم الأسود، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وفتحت عيونهم على حقيقة صادمة، لم تَرِدْ ربّما في أسوأ كوابيسهم، وهي أن من كانت تنظر إليهم باستصغار ودونية قد أوقعوها أرضاً ونالوا من كبريائها بشدّة، الأمر الذي يُفسّر هذه الهستيريا المُطبِقة، ويعلّل هذا التمادي كلّه في حرب الإبادة على غزّة، ثمّ على لبنان أخيراً، لإدامة سَكْرَة الخامس من حزيران/ يونيو (1967) إلى أجل لا نهاية له، أكثر من استعادة قوّة الردع والهيبة.
الإعاقة الذهنية الثانية الرغبوية، أي اتخاذ المواقف والقرارات القائمة على التمنّيات، عوضاً عن التقديرات الواقعية، فهي ماثلة في سياسات اليمين الفاشي الراهنة، التي لا ترى إلّا ما تحبّ أن ترى، تتمسّك بدور الضحية الأبدية، وتُشخّص أيَّ انتقاد لفجورها مظهراً من مظاهر العداء للساميّة، حتّى وإن صدر عن منظّمات حقوق الإنسان، أو عن محكمتَي العدل والجنايات الدوليتَين، أو حتّى عن الأمم المتّحدة، اعتقاداً من أصحاب هذه العقلية الإجرامية أنّهم محصّنون من المساءلة، وأنّ دولتهم المارقة فوق القانون، وأنّ للضحية التي راحت تُقلّد جلّادها وتتفوّق عليه، الحقّ المطلق في طلب معاملةٍ تفضيلية.
أما الإعاقة الثالثة، المتجلّية بأكثر مظاهرها وحشيةً في هذه الآونة، فهي النزعة العدوانية المعطوفة على وهم القدرة الكلّية، الكفيلة وحدها بحلّ كلّ معضلة، وإيجاد مخرجٍ لكلّ أزمة، فإنْ لم تكن جرعة القوّة كافيةً فبالمزيد من هذه القوة، إلى أن يُكوَى وعيُ العدوّ ويُحمَل على تجنّب التحرّش بكلب موشيه دايان المسعور جدّاً، وذلك تأسيساً على مبداً الإخضاع والإكراه والإرهاب، وكسر الإرادة ودسّ الإصبع في العين، وإن لم يتأتَ لها ذلك كلّه فلا بأس من سحق العدو، وإنْ لزم الأمر مَحقه، تماماً على نحو ما جرى في غزّة طوال عام كامل، ويجري اليوم في لبنان.
ويكفي واحدنا أن يقرأ ما تيسّر له من ثرثرات الصحافة العبرية، أو أن يتابع قسطاً من السجالات الحامية داخل الاستديوهات، حتّى يَخلُص إلى استنتاج مفاده أنّ منبع هذه الحروب المتواصلة، منذ قرن وأكثر، ومصدر هذه الجرائم كلّها، المتنقلة في الزمان والمكان، الذعر الوجودي المُهدِّد، ممّا يفرض التعويل بالكامل على مبدأ القوّة التي لا سقفَ لها ولا حدَّ، وعلى وهم كلّية القدرة في صنع الحقائق المُؤهِّلة للدفاع عن نفسها بنفسها، ناهيك عن الاتكاء على التفوّق النوعي، وعلى إرهاب الدولة، وغير ذلك من أوجه القمع والقهر والقتل المنهجية.
ومع أنّ هناك إعاقات وعاهات أخرى عديدة، المُؤسِّسة لهذه العقلية المُشوّهة، المتسبّبة في أمراضها المستدامة كلّها، إلّا أنّ الوقوف على نقيصة واحدة من النقائص آنفة الذكر تكفي بالحدّ الأدنى للقيام بمقاربةٍ ناجحةٍ لإدراك دافعية هذا السعار المُستشري في أوصال الدولة العبرية، وفهم هذا الجنون المطبق على سديم فضائها الكالح.