ازداد السنوار في غيابه حضوراً

22 أكتوبر 2024

صورة يحيى السنوار في تجمع في تونس يناصر غزّة (18/10/2024 Getty)

+ الخط -

يكاد كلّ من قضى شهيداً، سيّما من نخبة المؤسّسين للثورة المعاصرة أو من القادة الفلسطينيين الكبار، على مدى مائة عام وأكثر، أن يكون ذهب غيلةً ضحيةَ عملية اغتيال مُدبَّرة، برعت فيها أجهزة الأمن الصهيونية، ولم يشذّ عن هذه القاعدة (أو قل هذه القائمة الطويلة من الكواكب والشهب المضيئة في سماء فلسطين) سوى قلّةٍ قليلة من الشموس الساطعة، من الرجال الذين ارتقوا إلى المجد وأيديهم على الزناد، يقاتلون في قلب المعركة، فظلّوا حاضرين في الذاكرة، يملؤون فضاء الكفاح المديد بطاقةٍ وطنيةٍ متجدّدة، يُلهمون الأجيال ويلهبون الخيال، ويُثرون ذاكرةَ شعبٍ تمرَّس في الصمود والمقاومة، من اللاأرض، من فوق بساط الريح بلا هوادة، ويعرفون كيفية الانبعاث من تحت الرماد طائرَ فنيقٍ مرّة إثر مرّة.
نذكر من بين حلقات هذه السلسلة الذهبية القصيرة من القادة العظام، الذين استشهدوا وهم واقفون، يقاتلون في مقدّمة الصفوف حتّى النَّفَس الأخير، الشيخ المعمَّم عزّ الدين القسّام في ثورة العام 1936، الذي تلألأ اسمه في المعركة المزدوجة ضدّ كلٍّ من العصابات الصهيونية وقوات الانتداب البريطاني، إلى أن ارتقى شهيداً في أحراش يعبد عند مشارف جنين، وقد تسمّت باسمه فيما بعد كتائب القسّام، ونتذكّر أيضاً البطل المقدسي عبد القادر الحسيني، قائد معركة القسطل عند مشارف المدينة المُقدَّسة عام 1948، فمضى من دون أن يطويه الغياب الأليم، فتخلّد اسمه وصار علماً يرفرف عالياً في الوجدان الشعبي الفلسطيني إلى اليوم.
ثالث ثلاثة هذه الكوكبة من الفرسان المُجلّين، والرجال المعدودين، ممّن انكتبت أسماؤهم في لوح الخالدين، تجلّى اخيراً اسم يحيى السنوار من دون مراء، بطلاً في الحياة وفي الممات والمعتقلات، قائداً صلباً لا تلين له قناة، يكفيه مجداً، لا حدَّ له ولا سقف، أنّه رجل "طوفان الأقصى" بلا منازع، الفتى الأغرّ الأشيب المِقدام، اللاجئ الذي قاد أول حرب فلسطينية هجومية في تاريخ الصراع المرير، غيّرت وجه المنطقة، وأُسقطت فيها مفاهيم عديدة مستقرّة في الوعي العربي العام عن حصانة أسوار دولة الاحتلال، عن الجيش الذي لا يُقهر، مناعة الأمن وقوّة الردع وسُعار كلب موشيه دايان، وغير ذلك كثير من الادّعاءات.
كانت شخصية السنوار محلّ نقاش داخلي عويص، اختلفت فيه، قبل 7 أكتوبر (2023)، وجهات نظر المنخرطين في السجال العام، بين من كان يرى فيه قائداً نجيباً، أتى في الزمن الملائم، ومحارباً صلباً عنيداً لا يساوم، صنعته معطيات الحصار الخانق وحالة الاستعصاء الراهن، وبين من رأى في إهابه رجلاً مغامراً، يجازف بلا تحسّبات، ولا يأخذ بعين الاعتبار اختلال الموازين، وذلك إلى أن فاض السيل العرم وحدث "الطوفان"، وشاهد المتحفّظون على رهان يحيى السنوار قائداً يعبر برجاله حدود المستحيل، يزلزل الأرض تحت أقدام دولة الاحتلال، الأمر الذي أسقط جلّ التحفّظات السابقة على خطاب رئيس الحركة الإسلامية المجاهدة (حماس).
إذا كانت الصور الأولى ليحيى السنوار في صباح 7 أكتوبر، وفق ما تجلّت باقتحام مقاتليه مستوطنات غلاف غزّة، فقد سجّلت في كتاب الكفاح الفلسطيني المُصوَّر صفحةً عزيزةً مشرقة، ردّت الروح وعادلت بوقعها المذهل هزيمة حرب الأيام الستّة، فقد كانت صورة يحيى السنوار الأخيرة، التي أفلتت من مقصّ الرقيب الإسرائيلي، وحطّمت سرديته عن الفرار والاختباء بين الأسرى في الأنفاق، صورةً بطوليةً نادرةً وملهمةً للأجيال الفلسطينية الصاعدة، إذ كان القائد بين رجاله، يقاتل ببزَّته العسكرية وبسلاحه الشخصي الخفيف (وهو غنيمة حربية) قوات احتلال مدجَّجة، ويستبسل في مواجهةٍ غيرِ متكافئةٍ حتّى النَّفَس الأخير.
بعد "طوفان الأقصى"، خاصّة بعد تولّي يحيى السنوار قيادة "حماس" في أصعب الأوقات، ساد التقدير لدى بعض الأوساط الإعلامية، أنّ السنوار بات زعيماً فلسطينياً كبيراً أبى من أبى، وأنّه نجح في تعليق صورته العفوية عالياً، على حائط الذاكرة الشعبية، ووضعها إلى الأبد في صميم الضمير الوطني، إلى جانب صورة الأب المؤسّس للثورة الفلسطينية المعاصرة ياسر عرفات. أمّا اليوم، وبعد واقعة استشهاد هذا المحارب الشجاع، على نحو يليق بالأبطال فقط، قد صار أيقونةَ نضال، رمزاً بلا مراء، علّق على الحائط ذاته صورةً أخرى له، بكلّ جدارة واستحقاق، إلى جانب صورتَيِ القائدين الجسورين، عزّ الدين القسّام وعبد القادر الحسيني، الأمر الذي يصحّ معه القول "في غيابه ازداد السنوار حضوراً"، بكلّ تأكيد.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي