يحيى السنوار... أعط القوس باريها

10 اغسطس 2024

يحيى السنوار متجولا في غزّة بعد خطاب أمهل الاحتلال 60 دقيقة لاغتياله (26/5/2021 فرانس برس)

+ الخط -

أحسنت حركة حماس صنعاً، وأتت بالخيار الأفضل، عندما عجمت سهامها في الجعبة، وانتخبت أصلبها عوداً، فرفّعت قائد غزّة يحيى السنوار إلى رتبة القائد العام للحركة، التي شنّت أول حرب هجومية في تاريخ الكفاح الفلسطيني، بأداء فاق المستويات التي قاتل فيها الفلسطينيون من جيل الآباء والأجداد، وأعادت قضية الشعب المخذول إلى صدر جدول الأعمال العالمي، بعد طول تهميش كاد يبلغ حدّ الشطب والإلغاء، الأمر الذي يُجيز لنا القول إنّ الحركة المجاهدة أعطت القوس باريها، بوضع قائدٍ ذي رمزيّة باذخة، كان قد حفر صورَته في الوعي الوطني قائداً تاريخياً كبيراً، وعلّقها على الحائط إلى جانب صورة ياسر عرفات.
جاء انتخاب يحيى السنوار من خارج الصندوق مفاجأةً تامةً للأطراف المخاطبة كلّها بهذا الأمر المثير للانطباع، لا سيّما في الظروف القاسية التي يعيشها القطاع المُدمَّر، مفاجأة أرسلت الرسائل إلى الداخل والخارج، وعبّرت عن موقفِ تحدٍّ هائلٍ للاحتلال، الذي شيطن السنوار وشبّهه بهتلر، وظلّ يرى فيه العدوَّ رقم واحد، معتقداً أنّ اغتيال الأسير المحرّر قد يُشكّل علامةَ انكسارٍ مُشتهاة، تُتيح لحكومة المجانين في تلّ أبيب الادّعاء بتحقيق صورة نصر طال انتظارها، وربّما سيطول أكثر، وقد لا يتحقّق أبداً.
كان وضع مهندس "طوفان الأقصى" في رأس الهرم في مَحلّه، إذ من بين النجوم التي كانت قد أضاءت سماء غزّة خلال العدوان السابق على "الطوفان" سطع نجم قائد حركة حماس بقوّة، وتلألأ أكثر غداةَ وقف إطلاق النار، الأمر الذي أكّد أنّ السنوار هو القائد الحقيقيّ للمعركة، بدلالة أنّ اغتياله كان هدفاً مركزياً معلناً لقادة الاحتلال، وهو ما أدركه السنوار مُبكّراً، فخرج إلى العلن قبل أن ينقشع غبار الحرب، سار على قدميه بين الناس، ورفع يده بشارة النصر، ليقلب الصورة رأساً على عقب، ويصنع بدلاً منها مَشهداً يفيض بالتحدّي، الموظّفَ جيداً في معركة كسب الصورة، التي تُعادل في أهميتها موقعةَ غلافِ غزّة، ومعركةَ إطلاق الصواريخ على تلّ أبيب.
وهكذا، صنعت إطلالة السنوار المُتحدّية آنذاك موقفاً يُحسب للقائد الشاب، وأضافت قيمة رمزيّة باذخة إلى رأس المال الرمزي الفلسطيني المتراكم في مدى عقود عديدة، بنى خلالها الفدائيون والقادة الكبار أرضيّةً متينةً لمواصلة الكفاح المجيد، وجلب التأييد لشعب ظلّ يُقاوم بشجاعة، ينهض، مرةَ إثر أخرى، من تحت الركام مرفوع الرأس، إلى أنّ حقّق التحوّل الواسع في الرأي العام، ووصل خطابُه أخيراً إلى المعقل الأميركي، الذي كان حتّى الأمس حِكراً على اللاعب الإسرائيلي.
بعيداً عن المبالغات المُندرجة في سياقات الحرب النفسية، فقد بدا السنوار، بما له من ميزات وما عليه من ملاحظات، تتعلّق بمحدودية مهارات الاتصال ومخاطبة الرأي العام، متدثّراً ثوب ياسر عرفات، ومحاكياً له، حين تحدّى المطلوبُ رقم واحد وزيرَ الحرب الإسرائيلي، قائلاً له إنّه يفضّل أن يكون شهيداً على أن يتوارى عن الأنظار، وهو موقف قائد حقيقي يعي بلاغة هذا الظهور في تلك اللحظة الحرجة، يُجازف بدمه لكسب معركة الصورة، التي من شأنها تعميق الحسّ لدى أعدائه بالفشل والإخفاق.
في الجانب المتمّم لصورة السنوار العرفاتية، فقد كان لافتاً يومها خطاب قائد الحركة الأسيرة سابقاً، وزعيم "حماس" حالياً، ترفّعه عن الحسابات الجزئية الصغيرة، وتفهّمه للواقع السياسي المُتاح، وإبداؤه القبول بدولةٍ في حدود 1967، وفق قرارات الشرعية الدولية، وإظهاره روح التصالح مع رفقاء المسيرة الطويلة، بقوله "نم قرير العين أيّها القائد أبا عمار، إنّ ابناءك في كتائب القسام يواصلون في دربك المسار"، وهو قول لم يجرِ قط من قبل على لسان أيّ من قادة "حماس".
وأحسب أنّ سنوات الاعتقال المريرة (23 سنة)، التي قضاها ابن خانيونس في الزنازين، إلى جانب مروان البرغوثي، وكبار قادة الحركة الأسيرة، وإتقانه اللغة العبرية، ومن ثمّة فهمه العميق العقلية الصهيونية، وعلى نحو أفضل من فهم جيل المؤسّسين للثورة الفلسطينية، قد دلّلت على نشوء جيل جديد من قادة المقاومة، أكثر تأهيلاً لمقارعة الاحتلال، وأشدّ مراساً ومضاءً ووعياً وصلابةً وحكمةً وثوريةً، لمواصلة الكفاح، وغذّ الخُطى في طريق الاستقلال والحرية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي