يحدُث في جنين

16 ديسمبر 2024

حاجز لقوات الأمن الفلسطينية في جنين (6/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

لنتجاوز نعْتَ الاقتتال بين شبّانٍ مسلحين، يوصفون خارجين عن القانون، وقوة أمنيةٍ في السلطة الفلسطينية في جنين ومخيّمها، منذ 11 يوماً، بأنه مُخزٍ، إلى دعوة الجميع إلى التعقّل، وإلى أن يُبادر حكماء راشدون إلى تطويق هذا التوتّر المسلح الذي لا ينفكّ يتجدّد ما إن يتوقّف. ولا يملك معلقون، ينتسب إليهم صاحب هذه الكلمات، غير لغة الوعظ هذه، وإنْ لا تجد حيّزاً لها مع التمادي الظاهر للعملية التي تشنّها أجهزة الأمن الفلسطينية (حماية وطن)، ومع عدم الرشد لدى "كتيبة جنين"، الطرف المقابل الذي لا يلقى إسناداً مُجمَعاً عليه من أهالي المدينة والمخيّم. وإذ يلزم حذرٌ كثيرٌ في إطلاق مواقف الاصطفاف مع السلطة أو مع من تواجههم بالسلاح، بالنظر إلى أن مقولة مقاومة الاحتلال لا تعني، في أيّ حال، التسليم لأصحابها بعدم الانتباه إلى مصالح الناس وأمنها وحاجتها إلى الاستقرار. كما أن تغليف كلام السلطة، في تسويغ حملتها بأولويةٍ وطنيةٍ تتمثّل بفرض الأمن والنظام، لا يمكن تمرير منطوقه بالقبول التام. ومن ذلك حديث رئيس الحكومة، محمد مصطفى، أول من أمس، عن الصبر الذي نفد، وعن احترام رمزية مخيّم جنين، مع تأدية السلطة "واجبها تجاه الأغلبية"، للحفاظ على الوطن، بعد أن بلغ الوضع في المخيّم "مرحلةً لا يمكن السكوت عنها". ولأن أرشيف السلطة لا يوفّر لها مصداقية عالية، فإن لواحدنا أن يتلقّى هذا الكلام ببعض التحفظ، وحزمة من الأسئلة، يتعلق بعضُها بعدم تأدية السلطة "واجبها" في التصدّي لاقتحاماتٍ واعتداءاتٍ يوميةٍ إسرائيلية، في مدن الضفة الغربية وجامعاتها وميادينها، واعتقال شبّانٍ فيها، مع الاشتباه إيّاه بتورّط أجهزةٍ فلسطينيةٍ في هذا كله، عبر "التنسيق الأمني" إيّاه الذي يتردّد أنه لم يتوقّف. ويُؤتى على هذا الحال، وفي البال أن من الحكمة أن لا يُؤخَذ فلسطينيو الضفة الغربية إلى مذبحةٍ إسرائيليةٍ لن يتورّع العدو الفاشي عن اقترافها.
لا تَعالُم على حمَلة السلاح، الشبّان في جنين ومخيّمها، وهم ذوو أرواحٍ وثّابة، ونزوعاتٍ مُقاوِمةٍ وجهاديةٍ ضد العدو، لو قال واحدُنا إن فعل المقاومة في الأراضي الفلسطينية، في ظروفٍ شديدة التعقيد، يبقى في حاجةٍ إلى ترشيد دائم، وإلى حساب الممكنات والكيفيات والوسائل، فلا نفعَ وطنياً من الزهوِ بتقديم فتيةٍ مخلصين شهداء، لم يتأهّلوا تماماً لمغالبة العدو الغادر المستقوي بنفسه، ولم تتيسّر لهم البيئة التي تحميهم. وليس سرّاً أن كثيرين من أهل المدينة والمخيّم يقولون إن مظاهر تُعدّها الفصائل في الوطن والخارج مقاومةً هي استعراضاتٌ، ليست سوى إشهار تنظيماتٍ انتساب هؤلاء الشباب إليها، وهم، على ما صار معلوماً، من حركة الجهاد الإسلامي، وبعضٌ آخر من كتائب شهداء الأقصى (حركة فتح) لم يحفل بهم تنظيمُهم، فأخذهم الإحباط إلى خياراتٍ أخرى. ويوفّر هذان المُعطيان وجاهةً لقول من يقول إن من شديد الضرروة أن لا يُنظر بتقديسٍ إلى السلاح وإلى كل من يحمله، من دون التفريط بفكرة الحقّ في مقاومة الاحتلال، أقلّه بإيذائه، وليس استسهال الموت مع استسهال فعل المقاومة نفسه. ولعلّ انتهاء مجموعة "عرين الأسود" في نابلس، بفعل عوامل ذاتيةٍ فيها، وما صنعتْه السلطة أمنياً، وما أعملته قوة الاحتلال الباغية من اعتداءاتٍ واغتيالاتٍ واعتقالات، يعطي عِظةً ما في هذه الأثناء.
أنعشَت أملاً أخبارٌ عن مبادرةٍ مجتمعيةٍ وطنيةٍ لوقف الاقتتال، تعمل عليها الهيئة المستقلّة لحقوق الإنسان، سيّما بعد مقتل قائدٍ في كتيبة جنين وطفل، عدا عن عدّة إصابات، غير أن تجدّد القتال أمس، مع حديثٍ عن انعدام بوادر للتهدئة، في أجواء حصارٍ للمخيّم، واعتقالاتٍ أقدمت عليها أجهزة السلطة، تعني أن القصة ستطول، وأن الخراب في الحالة الفلسطينية أسوأ مما قد نفترض، وأن انتحاراً للعقل يتسيّد في هذه الغضون، وأن الدم اليوميَّ في الإبادة المهولة في غزّة لا يُرشِد هذه الحالة البائسة إلى وقف مضيّها النشط إلى قيعانٍ لا تُرى قيعانُها.
نعم، لوقف حملة أجهزة أمن السلطة، كما طالب أمس متظاهرون عديدون في مخيّم جنين. ونعم لحوارٍ عاجل، تتخفّف فيه حركات المقاومة وفصائلها من التغنّي بالسلاح بالمطلق، ويتّجه الجميع، في أثنائه، إلى أولوية الأولويات في الراهن، حماية الفلسطينيين من أنفسهم... يا للخِزي أو ما هو أشدّ منه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.