25 اغسطس 2024
وقفة مع التجربة الرحبانية
ظهرت التجربة الرحبانية، بشكل فعلي، في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وكان في الوطن العربي آنذاك مطربون أعلامٌ متربعون على قمة التألق والنجاح والشهرة، منهم أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وشادية، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، وعبد العزيز محمود، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، وهدى سلطان، ومحمد فوزي، ومحمد عبد المطلب.. وقبلهم منيرة المهدية وسيد درويش وأبو خليل القباني، وفي سورية محمد خيري، وصباح فخري، ونجيب السراج، وسلوى مدحة، ورفيق شكري.. وفي لبنان عمر الزعنّي، وجانيت فغالي (صباح)، ونور الهدى، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وزكي ناصيف، وكان ثمّة نماذج غنائية متعارفٌ عليها، تُصَنَّفُ بين الموشح والقصيدة والدور والطقطوقة.
كان وجود هؤلاء الأعلام في المحيط العربي يشكل تحدياً إبداعياً كبيراً للرحابنة، وهو، في الوقت نفسه، دليلٌ على حسن الطالع، إذ إن روح المنافسة المتمثلة بوجود هؤلاء المطربين والشعراء الغنائيين الكبار، أمثال أحمد رامي، وبيرم التونسي، وعبد الرحمن الأبنودي، وبديع خيري، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، ومرسي جميل عزيز، والملحنين العباقرة كرياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد، ومحمد القبصجي، ومحمد الموجي، سيكون لهؤلاء الفضل في رفع مستوى الرحابنة الفني، ودفعهم إلى تعميق لونهم المختلف، ذي الفرادة والخصوصية.
سُجلت أغنية فيروز الاحترافية الأولى في إذاعة دمشق، سنة 1952. ولهذا الأمر مدلول مهم، لأن سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن التي تعرف باسم بلاد الشام ستكون الملعبَ الأساسي للتجربة الغنائية الرحبانية، بسبب مقدرة شعوب هذه البلاد على فهم اللهجة اللبنانية، وتشابه علاقاتهم الاجتماعية، وهو ما سيجعل الأغنية الرحبانية شاميةً بامتياز، مختلفةً عن الأغنيات، المصرية والعراقية والمغاربية والخليجية.. ولأن سورية الأكبر مساحة وثقلاً، والأكثر استقراراً من بلاد الشام الأخرى، فقد أصبحتْ، منذ تلك البداية، تشكلُ العمقَ الاستراتيجي الخاص بالأغنية الرحبانية الفيروزية، وأصبحتْ رحلاتُ الفريق الرحباني إلى الشام شبهَ سنوية، ومكوكية. ولعل من أكثر الأعمال تعبيراً عن هذا الموقف المنادمة الغنائية بين فيروز ونصري شمس الدين في سكتش "دبكة لبنان"، إذ تغني فيروز في أحد الأبيات: حُبَّكْ خاتم ياقوت بقلبي بيرنّْ، وسنين العمر تفوتْ وهالعمر يجنّْ، وما زال الليل سكوتْ وبعدك بتحنّْ، انْ ما سهرنا في بيروت منسهر في الشامْ.
في مقابلةٍ أجريت في التلفزيون السوري، بُعَيْدَ أحد مهرجانات معرض دمشق الدولي، قال فيلمون وهبي لمنصور الرحباني: بتعرف أنت، إذا بدكن تجوا ع الشام وأنا ما أجي معكم بْخْوِتْ. (أي أصبح أخْوَتَ، أبْلَهْ).
تجدر، هنا، الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبته إذاعة الشرق الأدنى التي كانت تبث قبل سنة 1956 من القدس في احتضان التجربة الرحبانية، وبالأخص الفرص التي أوجدها المخرج الفلسطيني، صبري الشريف، أمام الأخوين الرحباني وبقية الفنانين اللبنانيين.
يمكن، من خلال النظر إلى مجموعة الأغاني التي أنجزها الفريق الرحباني مع فيروز، التوقف عند مَعْلَم أساسي من معالم تجربة الأخوين الرحباني، ويتلخص بتقديم لون مغاير للنمط الغنائي السائد الذي كانت إحدى سماته الإطالة، فأغنية تلك الفترة كانت مدتُها بين ربع الساعة والساعة الكاملة، ويمكن أن تزيد عن الساعة في بعض أغاني أم كلثوم، خصوصا أغاني الحفلات الخاصة التي كان قوامُها الأساسي الإعادة والتَفْريد والسلطنة، بينما الطول الكامل والنهائي لأغنية "حامل الهوى تعبُ" المأخوذة عن قصيدة لأبي نواس، مثلاً، دقيقة واحدة.
من الحكايات الطريفة التي رُويت عن هذه التجربة أن مدير إذاعة دمشق آنذاك، أحمد عسّه، عَرَضَ أغنية بصوت فيروز على الزعيم فخري البارودي، فلم يعجب بها. وفي وقت لاحق، قال عسّه للبارودي: لدينا مطربة شامية جديدة، سأسمعك صوتها.. وأسمعه أغنيةً لفيروز، فأعجب بها، وقال له: أرأيت؟ هكذا تكون الأصوات.. فقال له: ولكنها هي نفسها، فيروز!
كان وجود هؤلاء الأعلام في المحيط العربي يشكل تحدياً إبداعياً كبيراً للرحابنة، وهو، في الوقت نفسه، دليلٌ على حسن الطالع، إذ إن روح المنافسة المتمثلة بوجود هؤلاء المطربين والشعراء الغنائيين الكبار، أمثال أحمد رامي، وبيرم التونسي، وعبد الرحمن الأبنودي، وبديع خيري، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، ومرسي جميل عزيز، والملحنين العباقرة كرياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد، ومحمد القبصجي، ومحمد الموجي، سيكون لهؤلاء الفضل في رفع مستوى الرحابنة الفني، ودفعهم إلى تعميق لونهم المختلف، ذي الفرادة والخصوصية.
سُجلت أغنية فيروز الاحترافية الأولى في إذاعة دمشق، سنة 1952. ولهذا الأمر مدلول مهم، لأن سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن التي تعرف باسم بلاد الشام ستكون الملعبَ الأساسي للتجربة الغنائية الرحبانية، بسبب مقدرة شعوب هذه البلاد على فهم اللهجة اللبنانية، وتشابه علاقاتهم الاجتماعية، وهو ما سيجعل الأغنية الرحبانية شاميةً بامتياز، مختلفةً عن الأغنيات، المصرية والعراقية والمغاربية والخليجية.. ولأن سورية الأكبر مساحة وثقلاً، والأكثر استقراراً من بلاد الشام الأخرى، فقد أصبحتْ، منذ تلك البداية، تشكلُ العمقَ الاستراتيجي الخاص بالأغنية الرحبانية الفيروزية، وأصبحتْ رحلاتُ الفريق الرحباني إلى الشام شبهَ سنوية، ومكوكية. ولعل من أكثر الأعمال تعبيراً عن هذا الموقف المنادمة الغنائية بين فيروز ونصري شمس الدين في سكتش "دبكة لبنان"، إذ تغني فيروز في أحد الأبيات: حُبَّكْ خاتم ياقوت بقلبي بيرنّْ، وسنين العمر تفوتْ وهالعمر يجنّْ، وما زال الليل سكوتْ وبعدك بتحنّْ، انْ ما سهرنا في بيروت منسهر في الشامْ.
في مقابلةٍ أجريت في التلفزيون السوري، بُعَيْدَ أحد مهرجانات معرض دمشق الدولي، قال فيلمون وهبي لمنصور الرحباني: بتعرف أنت، إذا بدكن تجوا ع الشام وأنا ما أجي معكم بْخْوِتْ. (أي أصبح أخْوَتَ، أبْلَهْ).
تجدر، هنا، الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبته إذاعة الشرق الأدنى التي كانت تبث قبل سنة 1956 من القدس في احتضان التجربة الرحبانية، وبالأخص الفرص التي أوجدها المخرج الفلسطيني، صبري الشريف، أمام الأخوين الرحباني وبقية الفنانين اللبنانيين.
يمكن، من خلال النظر إلى مجموعة الأغاني التي أنجزها الفريق الرحباني مع فيروز، التوقف عند مَعْلَم أساسي من معالم تجربة الأخوين الرحباني، ويتلخص بتقديم لون مغاير للنمط الغنائي السائد الذي كانت إحدى سماته الإطالة، فأغنية تلك الفترة كانت مدتُها بين ربع الساعة والساعة الكاملة، ويمكن أن تزيد عن الساعة في بعض أغاني أم كلثوم، خصوصا أغاني الحفلات الخاصة التي كان قوامُها الأساسي الإعادة والتَفْريد والسلطنة، بينما الطول الكامل والنهائي لأغنية "حامل الهوى تعبُ" المأخوذة عن قصيدة لأبي نواس، مثلاً، دقيقة واحدة.
من الحكايات الطريفة التي رُويت عن هذه التجربة أن مدير إذاعة دمشق آنذاك، أحمد عسّه، عَرَضَ أغنية بصوت فيروز على الزعيم فخري البارودي، فلم يعجب بها. وفي وقت لاحق، قال عسّه للبارودي: لدينا مطربة شامية جديدة، سأسمعك صوتها.. وأسمعه أغنيةً لفيروز، فأعجب بها، وقال له: أرأيت؟ هكذا تكون الأصوات.. فقال له: ولكنها هي نفسها، فيروز!