"واجب" آن ماري جاسر

04 مايو 2018

محمد بكري وصالح بكري وماريا زريق في "واجب"

+ الخط -
لا تُشاهد في فيلم الفلسطينية آن ماري جاسر الجديد، "واجب"، من إسرائيل، غير جنديين منها في مطعم فول وفلافل عربي في الناصرة. وإليهما، ثمّة إسرائيليٌّ آخر، يتحدّث عنه بطلا الفيلم، الأب وابنه، دقائق فقط، ويأخذ حديثهما هذا منحىً جداليا ومتوترا، ذلك أن الأب يريد دعوة هذا الإسرائيلي إلى عرس ابنته، فيما يرفض الابن. لا تراه. يُكتفى به عنصر خلافٍ بشأن "واجب" دعوته أم عدم وجوبها، ذلك أنه، بحسب الأب، ساعد في تسهيل خروج الابن إلى إيطاليا للدراسة، بعد إشكالاتٍ كادت تمنعه من السفر، فيما هو، بحسب الابن، من رجال المخابرات الإسرائيلية (الشاباك)، ويريد الفلسطينيين جواسيس على بعضهم، وكان له غرضُه في التدخل من أجل ترقية الأب من مدرسٍ إلى مدير مدرسة. وجوهريا، لا يتعلق الفيلم بالحدّوتة هذه تماما، وإنما بناس الناصرة وأحوالهم وطبائعهم وعاديتهم، وبالفضاء الاجتماعي العام للمدينة. ولكن، هل في الوسع تغييب الحضور الثقيل لدولة الاحتلال الحاكمة؟ بالطبع لا، ولكن ليس هذا الأمر مركزيا تماما، ليحتلّ مشاغل الفيلم كله في ساعتيه الشائقتين، واللتين تعبران من طرافةٍ إلى طرافةٍ، في إيقاعٍ بالغ الجاذبية والحيوية، مع فائضٍ من المتعة، في تتابع المفارقات والتفاصيل الصغيرة الكاشفة، والتي تضيء على حياة مجتمعٍ يعيش في وضع عويصٍ وخاص، تبدو العلاقات بين ناسِه محمولةً على البساطة، فيما هي ليست كذلك بالضرورة، كما يوحي الفيلم في غير التفاتةٍ ولقطةٍ. 

استحقّ هذا الفيلم الفلسطيني، بالصنعة الجمالية والسردية المشهدية الحاذقة فيه، تقديرا عربيا وعالميا واسعا، ليس فقط بإحرازه 17 جائزةً في مهرجاناتٍ وتظاهراتٍ سينمائية في غير بلد، وإنما أيضا بالانتباه إلى قيمته، في تعليقاتٍ جيدةٍ عنه. وما في وسع صاحب هذه الكلمات أن يضيفه هنا أن آن ماري جاسر، في أفلامها الروائية الطويلة، "ملح هذا البحر" (2008)، و"لمّا شفتك" (2012)، و"واجب" (2017)، كانت تختبر كفاءتها في تجريب خياراتٍ فنيةٍ متنوعةٍ، ذلك أن هناك مسافةً على صعيد الاقتراح الفني بين كل عمل وآخر. وإذ أخبرتنا في الدردشة التي أعقبت مشاهدتنا فيلمها الجديد في الدوحة قبل أيام، ضمن تظاهرة "الأب في عيون السينما"، أنها تميل إلى الإيقاع البطيء في شغلها، فالظاهر أن هذا البطء ليس في منزلةٍ واحدةٍ في الأفلام الثلاثة. ويمكن القول إنه ليس ملحوظا في "واجب" الذي تتوالى وقائعُه في نهارٍ واحدٍ، فيما أمكن الوقوع عليه في الفيلمين السابقين اللذين حضرت موضوعة فلسطين نفسها، والاحتلال الإسرائيلي، بمقادير أكثر مركزيةً مما في الفيلم الجديد الذي يتوسّل الإيحاء في شأن هذا الاحتلال، بالنظر إلى خصوصيته في الداخل الفلسطيني المحتل في 1948، بل إن ذينك الفيلمين انشغلا بمقاومة الاحتلال، الفدائي وغيره، وعلى غير مستوى، وبالتعبير عن موقع حق العودة في نفوس الفلسطينيين.
صار في الوسع أن يوصف منجز آن ماري جاسر، التلحمية المنبت، والأميركية الجنسية والعتبات السينمائية الأولى، بأنه مستجدٌّ طموحٌ، ونوعي، في حاضر السينما الفلسطينية الجديدة التي باتت تعرف تجارب مشهودة، وذات مستوىً فني طيب، وعالٍ أحيانا، في السنوات العشر الأخيرة، ما قد يعود إلى احتكاك الحساسيات الفنية الشابة بخبرات العالم المتنوعة، وإلى تخفّفها من سلطة مقولاتٍ سادت طويلا بشأن مقاربة الموضوع الفلسطيني، بل والذهاب في هذا الأمر إلى مقادير ظاهرةٍ من الجرأة والشجاعة. ويضاف إلى هذا كله وغيره توفر الإمكانات وموارد التمويل من مؤسساتٍ وشراكاتٍ وصناديق دعم مختلفة، وهو ما تيسّر لفيلم "واجب"، والذي كانت شركة ميتافورا، شقيقة "العربي الجديد" في مؤسسة فضاءات ميديا، من المساهمين في تمويله، وهو ما يبعث على الاعتزاز، بالنظر إلى النجاح الذي أحرزه الفيلم اللافت، والذي تألق فيه النجم محمد بكري، في أداءٍ جذّاب، استحقّ عليه أكثر من جائزةٍ، وأهمّها جائزة جمهوره المحبّ لفنّه منذ عقود.. متّعه الله بالصحة.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.