هو الموت
إذ ندرك ما أدركناه دوما أنّ الموت قادمٌ لا محالة، وأنه على عكس ما نزعم ونتصرّف، دائما على مقربة، وأننا في الحقيقة لسنا أكثر من ناجين بشكلٍ مؤقّت، بانتظار أن يلتفت ويشير بإصبعه إلينا. إذ ندرك ذلك، ينتابنا ذلك الهلع الذي يفجّر القلب، يقطع الأنفاس، يشلّ الأطراف، فلا تقدر تُروسُ إيماننا عليه، ولا تعزّينا كثرتُنا، ولا يُعيق رحيلـَنا تمسّكُنا بالجماد أو بالأحياء. سوف تتبعونني، يقول لنا ملاكُ الموت باسمًا مشفقًا، أو غاضبًا عاتيًا. وفي الحالتين، نتمنّى خاشعين أن لا نكون في وضعٍ يُجبرنا على انتظاره، تمنّيه، أو مقابلته، راجين أن يأتي متسلّلا، غادرا، على غفلةٍ منّا أو في أثناء منامنا، فلا نعي ما يجري لنا، ولا نشعر بتوقّف أعضائنا أو بانسحاب الحياة منها. نموت، لا بأس، لكن ننتهي كفقّاعة صابون، بخفّة، سهوًا، بطرفة عين، من دون وجعٍ، دمعٍ، حزنٍ، خوفٍ، أو وداع.
موت الآخرين يجعل التفكير في الموت جائزا. لكنّ التفكير في موتنا الخاص أمرٌ محال. نحن نعرف أن الموت هو قدرنا جميعا، لكننا لا نعرف عنه شيئا لأننا لم نَخبره بعد. نتصرّف وكأننا باقون إلى الأبد، نعيش، نخطّط للمستقبل، نبني، نتملّك، ننجب أطفالا، نحلم، .. إلخ، وكأنّ شيئًا لا يهدّدنا بالفناء، وكأننا أبناء الأبد غير قابلين للانتهاء. قال فرويد إننا في لا وعينا خالدون. وكتب الكاتب الروماني إميل سيوران: "في العمق، يشعر كلّ منا ويؤمن أنه خالد، حتى ولو أدرك أنه سيموت بعد لحظة. نحن يمكننا تفهّم كل شيء، تقبّل كل شيء، استيعاب كل شيء، باستثناء موتنا، حتى وإن كنا نفكّر فيه باستمرار مستسلمين لأمره". نحن غير مهيّئين للموت. الموت موضوعٌ محرّم، ممنوع، ينبغي تناسيه تماما والمضيّ قدما. ينبغي أن نلهي أنفسنا عنه، أن نخاتله فنمثّل أننا نجهله أو أنه غير موجود. لكن، ثمّة حضاراتٌ وثقافاتٌ أخرى تُعدّ أبناءها لهذا الميعاد، فإذا بهم يتآلفون معه، يتقبّلونه فيذهبون إلى موتهم مسالمين، محايدين. هؤلاء مثلا لا يُخيفهم الموت ولا يصدمهم، لأنهم يرون أنهم أبناء الطبيعة التي سيعاودون التوحّد بها، ذلك أن الروح لا تفنى وتعود في أجساد وأشكال أخرى.
المنتحرون أيضًا لا يخافون الموت. إنهم يتحدّونه، يكيلون له الشتائم والضربات. يسابقونه ويسبقون. المنتحرون يخافون الحياة. هم لا يريدون التمرّغ مزيدا في وحولها، يرفضون تصديق وعودها الكاذبة، يأبون الرضوخ، المهادنة، ويقصدون التخلّي، التبعثر، الانفكاك. يقصّ المنتحر حبلَ السُرّة بأسنانه، بأظافره، يشعل فيه وفي يديه النار. حبلُ السرّة الذي يقيّده إلى الحياة يجب أن يُقطع، إنه تلك الأصفاد الحديدية التي تكبّل يدي السجين. إلا أنّ السجين لم يرتكب ذنبا وهو يرفض أن يُساق إلى المقصلة بريئا. الحياة في الأصل مقصلة، وهو الذي سينُزلها على عنقه متى شاء.
يمضي كثيرون من حولنا في المدينة الميتة. لا أدري أهو مواتُ هذي الأخيرة ما يُشعرنا حاليا بكل هذا الموت، أم أنّه الموتُ أدركنا أخيرا، وبدأ يُعمل مناجلَه فينا. إنهم يموتون من كل الفئات، من كل الأعمار، من كل الطبقات. مرضى وأصحّاء، ضعافا وأقوياء، أطفالا وبالغين. لا أدري إن كانت هي العتمة السارحة فوق رؤوسنا مثل بقعة حبرٍ عملاقة، أو الساقطة علينا كغلالة كونيـّة سوداء، هي ما يستجلب الموتَ بهذه الأعداد. نحن نحيا في مدينةٍ ميتةٍ، في بلدٍ ميتٍ تحيط به بلدانٌ ميتة هي الأخرى. سهوبٌ ميتةٌ ومطفأة، يتساقط الناسُ فوقها شهبا سوداء.
أنا أريد أن أموت مفترشةً الأرض تحت شجرة، قدماي مغروزتان في التراب وظهري متّكئ على جذعها. أرجو أن يكون الفصلُ حانياً كي أشعر باعتدال الهواء وألمس ترابا دافئا يُفسح لي. أريد أن تقتنع خلاياي، واحدة تلو الأخرى، بأنها ستنطفئ كاليعاسيب السعيدة، قبل أن يرفعها الهواء. أجل، أودّ أن أقرّر لحظتي، أُطْلـِق ذاكرتي عاليا، وأدخل في البياض.