الجندي الإسرائيلي السابق هوكشتاين يهدي لبنان إلى ترامب
لا يمكن إلا الترحيب بوقف حمام الدم في لبنان، فقد دمّرت إسرائيل عدة قرى وبلدات، ووصل عدد الضحايا إلى نحو أربعة آلاف، عدا آلاف الجرحى في مدة قصيرة، لكن شروط وقف إطلاق النار جعلته أقرب إلى الاستسلام الذي فرضته موازين القوى وغياب الدولة اللبنانية والصمت والتواطؤ العربيين مع العدوان الإسرائيلي.
التحليل السائد لدى فئات كثيرة أن خيار حزب الله بفتح جبهة "لمساندة غزّة" أعطى ذريعة لإسرائيل لتنفيذ أجندتها في لبنان وممارسة إرهابها وإجرامها على الشعب اللبناني فيه شيء من الصحة.. فلم يكن هناك ما يردع إسرائيل؛ فليست هناك دولة لبنانية، فيما شُلّت كل الجيوش العربية عن أداء دور قومي، واضمحل مفهوم الأمن القومي العربي، في زمن تهافت بعض الدول العربية للحصول على رضا إسرائيل والتذلّل لها، فيما تسابق المسؤولون اللبنانيون في الترحيب الحار بالمبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، الصهيوني المعلن والمجند السابق في الجيش الإسرائيلي، وكأنه منقذ لبنان واللبنانيين. وهو نفسه مهندس اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل عام 2022، التي لم تعجب إسرائيل في حينها، بالرغم من أنها مجحفة بحقّ لبنان، فقد جرى التخلي عن أراض لبنانية، وحوض غاز طبيعي، يسمّيه الإسرائيليون كاريش (قرش). إذ تريد إسرائيل الاستيلاء على جميع ما تُدعى "المربّعات" التي حدّدتها شركات، لتكون منصّات محتملة للغاز الطبيعي أو النفط، وبخاصة داخل الشقّ اللبناني من مياه البحر الأبيض المتوسّط. وعليه، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، في 4 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن على حكومته أن تجد "ثغرات" في اتفاقية عام 2022، حتى تعيد التفاوض للاستحواذ على المربّعات الأخرى. فالقصة لم تكن دفاعاً عن إسرائيل، وإنما تحقيق طموحاتها بأن تكون منتجة ومصدّرة مهمّة للنفط والغاز. وإنْ كانت هناك مؤشرات (وحتى دعوات) على أن تل أبيب كانت تفكّر جدّياً قبل عملية طوفان الأقصى في ضرب حزب الله وشلّ قدراته... وهنا يجب التوضيح أن هذا ليس طموحاً صهيونياً أو إسرائيليا خالصاً، بل إن تحويل إسرائيل إلى دولة مصدّرة للغاز الطبيعي هو ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية الأميركية، كما كشف عنها وزير الطاقة الأميركي أرنست مونيوز، فور توقيع اتفاقية الغاز بين الأردن وإسرائيل وبناء أنبوب الغاز الإسرائيلي (المنهوب من الفلسطينيين) في 2016.
تريد إسرائيل الاستيلاء على جميع ما تُدعى "المربّعات" التي حدّدتها شركات، لتكون منصّات محتملة للغاز الطبيعي أو النفط، وبخاصة داخل الشقّ اللبناني من مياه البحر الأبيض المتوسّط
والآن، بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي ابتزّت به إسرائيل وأميركا لبنان بموافقته على منع حزب الله من تجاوز جنوب الليطاني، تطالب إسرائيل، كما تردّدت أنباء في صحافتها، بأن تكون هذه المنطقة عازلة وخالية من السكان ومن الجيش اللبناني، بعد أن دمّرت نحو 26 قرية وبلدة لبنانية. فقد نشرت صحيفة لوموند الفرنسية، في عددها الخميس الماضي، خريطة تظهر القرى التي دمرتها إسرائيل في الجنوب، ما يمهد الطريق لها للمطالبة بجعلها منطقة عازلة خالية من السكان والجيش، أي أن تصبح تحت سيطرة إسرائيل، وما الذي يمكن أن يمنعها لاحقاً من نقل مستوطنين يهود إليها في ضوء (بالأحرى في ظلمة) استمرار الاستسلام العربي المذلّ، فقد أدّى عاموس هوكشتاين واجبه بفرض جزء من شروط الاستسلام مدعوماً بالجرائم الإسرائيلية وعلى حساب حياة الشعب اللبناني ولبنان.
ضروري هنا شرح دور هوكشتاين في المنطقة، أولاً تحت إشراف جون كيري، وزير الخارجية الأميركي السابق في كلتا إدارتي باراك أوباما، ولاحقاً مبعوثاً خاصاً لقضايا الطاقة تحت إدارة الرئس جو بايدن، تولى هوكشتاين مهمّة تطبيق الاستراتيجية لتحقيق ثلاثة أهداف: السيطرة على مصادر الطاقة في المنطقة، واستخدام مشاريع الطاقة بما فيها "البيئي" لتوسيع التطبيع العربي-الإسرائيلي وتوطيده، والثالث، وربما الأهم، أن تصبح إسرائيل مصدّراً للغاز الطبيعي، حتى يخفّ اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي، وتقليص دور الغاز الطبيعي الإيراني. لذا رأينا أن هوكشتاين لم يكن المفاوض بين إسرائيل ولبنان وعرّاب اتفاقية ترسيم الحدود بوصفه مبعوث بايدن لشؤون الطاقة فقط، وإنما قبل ذلك، كانت سفراته دائمة بين عمّان وتل أبيب والرياض تحت إدارة أوباما من قبل. ففي تلك الأثناء، شغل هوكشتاين منصب مساعد وزير الخارجية للطاقة، ولكنه كان عملياً وسيطاً دائماً بين إسرائيل والسعودية، أو على الأقل كانت مهمّته التمهيد للتطبيع بينهما. وحتى عشية "طوفان الأقصى"، انخرط هوكشتاين في رحلات شبه مكوكية نشطة بين السعودية وإسرائيل، لأن الوصول إلى استثمار إسرائيلي في الطاقة السعودية من أهداف التطبيع، ويمهد لهيمنة أميركا على الطاقة من خلال إسرائيل، فليست لأميركا ثقة بأي نظام عربي.
اتفاق استسلام؛ بسبب الموافقة على شروط إسرائيل، خصوصاً أن بنوده تشترط منع شراء أو الاستحواذ على أسلحة من دون موافقة الحكومة اللبنانية
قبل انضمامه إلى الحكومة الأميركية، عمل هوكشتاين في مؤسّسة هي لوبي للشركات التي تسعى إلى التأثير على الكونغرس لتمرير (أو تعديل) قوانين تخدم مصالح هذه الشركات، بما فيها شركات النفط والغاز، حتى إن شعار إحدى الشركات، واسمها "كاسيدي وشركاه"، هو: "نستطيع أن نجعل واشنطن تعمل لصالحكم". أي أنه بالرغم من حبّ هوكشتاين إسرائيل، وتصرّفه على أساس أن هذا واجب وطني، فهو أيضا الشخص المناسب، لأنه يفهم لغة شركات الطاقة والربح والمال، ويفهم "البزنس"... وإذا لم يختره الرئيس المنتخب دونالد ترامب مستشاراً لـ"مجلس الطاقة الوطني" المقترح، فلا بأس؛ فقد خدمه وخدم مخطّطاته، خصوصاً أن ترامب أعلن عن نيته تشكيل هذا المجلس لضمان "الهيمنة الأميركية". وهنا أقتبس من ترامب مباشرة، إذ استعمل كلمة "هيمنة"، ولم يحاول التمويه بكلمات يستعملها الرؤساء الأميركيون الآخرون، مثل "التعاون الدولي أو الاقليمي"، كذباً وبهتاناً.
لا معلومات عن الخطوات التي حققها هوكشتاين في جولاته بين السعودية وإسرائيل قبل أن يقطع "طوفان الأقصى" الطريق عليه، وكان يعتقد أن التطبيع بينهما أصبح قريباً في حينها، ولكنه مهّد الطريق، وقد أصبح الوقت متأخّراً على بايدن لتحقيق ما كان يراه "إنجازاً تاريخياً". لكن هوكشتاين وفريق كيري، وإدارة بايدن، لا شك حققوا خطوات قد تكون جدّا مهمّة، وجاء اتفاق الاستسلام ليسهّل الأمور على ترامب. وهكذا يعتقد الأميركيون، لأن الأمر أكثر تعقيداً للعودة بعد الدمار في لبنان وغزّة.
نقول إنه اتفاق استسلام؛ أولاً بسبب الموافقة على شروط إسرائيل، خصوصاً أن بنوده تشترط منع شراء أو الاستحواذ على أسلحة من دون موافقة الحكومة اللبنانية... من حيث مبدأ سيادة الدولة والقانون، هذه أمور مطلوبة، لكنها ستكون مفروضة من إسرائيل وأميركا، فمعناها واضح، أي: لا أسلحة مصدرها إيران، ولا أسلحة لأي حركة قد تحاول مقاومة إسرائيل. وهنا نسأل: ماذا عن أسلحة المليشيات الأخرى في لبنان؟... أي أن الهدف واضح، وليست له علاقة بتقوية سيادة الدولة اللبنانية والقانون، بل جعل لبنان رسمياً تحت حكم أميركا وإسرائيل بشكل غير مباشر. وقد يكون المجنّد الإسرائيلي هوكشتاين أفضل من يشغل منصب المندوب السامي لواشنطن وتل أبيب معاً.