رسائل دمشق... تناقضات مقلقة

05 يناير 2025

(مروان قصّاب باشي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

صحيح أن من غير العدل الحكم المبكّر على القيادة السورية الجديدة، لكن هناك غموضاً ورسائل متناقضة تبعثها حكومة "الأمر الواقع"، تثير تساؤلات، بل القلق، بشأن ماهية النظام الذي تنشده هيئة تحرير الشام، ورؤيتها إلى دور سورية، وموقفها من قضايا استراتيجية، فقد عانى الشعب السوري طويلاً كبح الحرّيات، ودفع ثمناً باهظاً في السجون والأقبية وغرف التعذيب، إضافة إلى أن موقف القيادة الجديدة من مسألة السيادة غير واضح أو غير مفهوم، خصوصاً أن هناك احتلالاً إسرائيلياً يتوسّع وأن ثمّة مطامع لدول أخرى في سورية. التناقض سيّد الموقف داخلياً، مع الإقرار بأن القيادة تحتاج إلى وقت أطول لترتيب وضع صعب جدّاً، خاصّة توفير المحروقات والمواد الغذائية للشعب السوري.
لكنّ إعلان أحمد الشرع أن دمشق تحتاج إلى أربع سنوات لوضع دستور جديد، ولتنظيم انتخابات نيابية وسياسية، يعني أن على الجميع قبول التعيينات الحالية في الوزارات ومفاتيح الدولة إلى أن تثبّت القيادة الحالية سيطرتها، وتصبح الأقوى، وعلى الجميع قبول هيمنتها، وترسيخ أيّ إجراءات تفرضها وشرعنتها. بمعنى أنها تبدأ ما يفترض به أن يكون مرحلةً انتقاليةً من دون إفساح مشاركة واسعة في المؤتمر المزمع عقده، وإذا كان هذا، فهي بداية إقصاء تنمّ عن قِصَر نظرٍ، إن لم تكن متعمّدة فإنها تثير الاستغراب. عدا عن أن التطمينات وحدها لا تؤسّس دولةَ المواطنة التعدّدية، مع التقدير لموقف الشرع، الذي هنّأ بأعياد الميلاد المسيحية، وهو موقفٌ يتجاوز بمسافات أحزاب الإسلام السياسي التقليدية، وقد تجاوب مع ممثّلي الكنائس المسيحية واستقبلهم، والأكثر أهمّية دعوة بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس إلى التعددية ودستور ديمقراطي يشارك فيه الجميع، من دون أن يتعرّض لمضايقات أو هجوم من أنصار هيئة تحرير الشام أو المتعصّبين.

إعلان الشرع أن دمشق تحتاج إلى أربع سنوات لوضع دستور ولتنظيم انتخابات، يعني أن يقبل الجميع التعيينات الحالية

لا يقتصر الأمر على المسيحيين السوريين بالطبع، إذ يجب التعهّد بمأسسة المساواة في الحقوق، وعدم التمييز ضدّ جميع السوريين، بغضّ النظر عن ديانتهم ومذاهبهم وإثنياتهم، من العلويين والدروز والأرمن والأكراد، وهو طريقٌ قد يبدو وعراً، خصوصاً أن هناك احتمالات حقيقية لانفصال المناطق الكردية، ومحاولة إسرائيل العلنية ضمّ مناطق درزية إليها. فكلّ كلمة ورسالة تصدر من دمشق حسّاسة، والمسألة لا تعتمد على القيادة الجديدة فحسب، لأن هناك تدخّلات، بل توغّلات في الأراضي السورية، حتى من داعم القيادة الجديدة وصديقها في أنقرة. لذا، تحتاج سورية إلى خبرات بناتها وأبنائها، متعدّدي المذاهب والإثنيات والاتجاهات، لخوض المعترك الصعب.
الأولوية التي يعيها الشعب السوري هي خطر تقسيم سورية، وأن الحفاظ على السلم الأهلي والتزام حقوق متساوية ضرورةٌ لإحباط أيّ خطط لتقسيم سورية أو قضم أراضيها. لذا، من غير المفهوم المباشرة بتغيير المناهج التعليمية بصورة ارتجالية، من دون تشاور ولجان متخصّصة، فما نشرته وزارة التربية والتعليم الجديدة يعكس توجّهاً لتلقين قيم التمييز المذهبية، وزرعها في الأجيال الحالية والقادمة، ولا ندري ما تُخبّئ الوزارة من مفاجآت بشأن التعريف بالأكراد والدروز من أبناء سورية. سعت القيادة الجديدة من اليوم الأول إلى إظهار "النقلة الفكرية" من تفكير جبهة النصرة و"داعش" إلى تفكير قيادة منفتحة بعيدة عن التعصب ولغة الكراهية. لا ندري ما الذي يجري تماماً، وما إذا هناك خلافات داخلية، أو محاولة لإرضاء جناح متشدّد، لكن النتيجة واحدة، ترسيخ نهج تمييز لا يؤسّس لحرّية أو عدالة أو سلم أهلي. وفي الوقت نفسه، يعلن الشرع إعجابه بالتجربة السعودية، وبرؤية ولي العهد محمّد بن سلمان، وهي رؤية من إنجازاتها تحويل المملكة واحدةً من أكثر وجهات الترفيه الفنّي الاستعراضي أهميةً في العالم. لذا الموقف من الانفتاح غير مفهوم، لا يعني ذلك اللحاق بالسعودية، لكنّ سورية كانت دائماً مركزاً ومنارةً للفنّ والأدب في العالم العربي، أي هل سيكون متّسع من الحرّية لازدهارها؟ فما هو الموقف من الحرّيات الاجتماعية والفنون نفسها؟.
الغريب أن الشرع، منذ وصوله إلى دمشق، بعث عدّة رسائل طمأنة إلى الغرب من خلال اختياره إعطاء أول مقابلتَين لمحطتَي "سي أن أن" و"بي بي سي"، مركّزاً على أن سورية "لا تشكّل خطراً على دول المنطقة". ما يعني ليس عدم التدخّل في شؤون الدول العربية فقط، فما يعني الغرب هو الموقف من إسرائيل، بل قال إن نجاح حركته في إسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد "منعت حرباً كونية"، يقصد بين إيران وإسرائيل، مع أنه يعي أن إسرائيل هي التهديد الرئيس للمنطقة وتحتلّ هضبة الجولان السورية (مسقط رأسه)، ودمّرت سلاح الجيش السوري ومراكز أبحاث وتوغّلت في أراضي سورية، ومستمرّة في القصف والتصرّف على أن لها الحقّ في السيطرة على الأراضي السورية.

ليس مطلوبة المساندة المسلّحة لغزّة، بل أن تبني سورية نفسها، لكن ليس عليها إعلان موقف قانوني وأخلاقي فهو لا ينفع مع الغرب

لم يسأل مراسلا القناتَين الغربيتَين الشرع عن إسرائيل، لكنّ مراسل قناة الجزيرة الإنكليزية سأل وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، عن موقف دمشق من الحرب الإسرائيلية في غزّة، فأجاب أن دوراً كان لسورية فيها، لكنّه انتهى، مضيفاً أن مفاوضات ستكون مع إسرائيل بشأن الجولان. وهي أجوبة أقلّ ما توصف به أنها "غريبة" وأنها لـ"طمأنة الغرب"، فليس مطلوباً من سورية المساندة المسلّحة لغزّة، بل أن تبني نفسها، لكن ليس عليها أن تعلن موقفاً قانونياً وأخلاقياً، فهو أسلوب لا ينفع مع الغرب، إلا اذا أرادت سورية عزل نفسها عن العالم العربي. الأكثر أهميةً هو الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لأراضي سورية، صحيح أن الوزير حديث التجربة، لكنّنا نرى ذلك يتكرّر، ما قد يدلّ على نهج، خصوصاً أن هناك خبراء سوريين مبدعين قادرون على وضع تصوّر للسياسة الخارجية، ويستطيعون إعداد أجوبة مبنية على القوانين الدولية ومقرّرات مجلس الأمن، إذا كان الأمر هو التخوّف من أن يعتبر الغرب سورية "دولة معادية".
الانفتاح على الغرب يقابله عدم وضوح الموقف السياسي في الرسائل حيال مستقبل التعدّدية والحرّيات في سورية. نعي أن هيئة تحرير الشام تحتاج إلى التوافق مع داعميها، لكن أهمّ مساند لها هي تركيا، لكنها لا تتمثّل النموذج التركي، ولا داعي لذلك. نأمل بموقف سوري من كلّ القضايا نابع من إجماع داخلي ومشاركة في إعلان مبادئ تأسيسية جديدة يتشارك فيها الجميع، فما يحدث في سورية، إيجاباً أو سلباً، يؤثّر في المنطقة، والأهم في العالم العربي، بل يجعل سورية مع مصر (التائهة حالياً) الدولتَين المرشّحتَين لقيادة العالم العربي. فهذه سورية الحضارة والتاريخ والثراء الثقافي، التي لا تحتاج إلّا إلى عودة أبنائها وبناء مجتمع الحرّيات والحرّية، لأجلها ولأجلنا جميعاً.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني