هم وبديهياتهم الجوفاء

06 ديسمبر 2024

(ياسر صافي)

+ الخط -

يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب، مع كلّ حركة جديدة تحدث في سورية، لإعادة سيرة الثورة وسردياتها منذ البداية، كما لو أنهم لم يسمعوا في حياتهم عنها، وكما لو أنها بمتغيّراتها وأحداثها كلّها، والمأساة المهولة التي تلتها، حدثت سرّاً، ما جعلها مجهولةً تماماً لغير السوريين، إلّا قلّة ما زالت تمتلك ضميراً صاحياً وعامّاً، وقادراً على التفريق بين الخطأ والصواب، وبين الحقّ والباطل. يضطروننا أيضاً لإعادة سرد البديهيات التي يُفترَض أنهم يعرفونها بوصفهم مثقّفين، منها أن المهجّرين تهجّروا بسبب النظام السوري، وأن الدمار تمّ بفعل الطائرات والقذائف التي يملكها الجيش السوري قبل أن تساندها طائرات وصواريخ وقذائف روسيا، وأن إيران وحزب الله (وباقي المليشيات التابعة لإيران) تدخّلا لصالح النظام السوري لا لتحرير فلسطين، وتدخّلا وهما يحملان شعارات طائفية في بلد ينتمي في أغلبيته إلى مذهب مختلف، ما ساهم في تأجيج الحقد الطائفي وتعزيز سردية الحرب الأهلية المذهبية، وأن الثورة السورية (2011) كانت تحمل شعارات المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهدفت إلى بناء دولة مواطنة عادلة حديثة، وأن رعيل الثورة الأول لم يحمل أيَّ شعارٍ طائفي، ولم يكن يحمل سلاحاً، ولم يطلق خطاباً فئوياً. كانت بدايات الثورة تطمح لأن تكون ثورةَ شعب كامل ضدّ الظلم والتهميش والقمع من أجل تحقيق حلم التغيير الكامل لسورية، التي رآها الجميع وقتها تستحقّ هذا التغيير، وتستحقّ التضحيةَ لأجله.

يضّطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب أيضاً إلى القول إنه لا ذنب للثورة بما حدث لاحقاً، ولا ذنب لها بدخول المليشيات والفصائل الجهادية والأسلمة والعسكرة، وإن هذا تمّ بدعم مجتمع دولي كامل، بقصد تكريس ثورة مضادّة تؤدّي إلى الفوضى وتثبّت حُكم نظام الأسد، وإن هذا لا تبتعد إسرائيل عنه كثيراً، بل ربّما هي السبب الأول فيه، إذ لن تجد في سورية خيراً من نظامها الحالي لضمان أمن حدودها، وقد أثبتت الأحداث خلال السنوات الماضية ذلك، فلم تتوقّف الغارات الإسرائيلية على مواقع وأهداف عسكرية سورية وإيرانية ذهب ضحيتها عشرات المدنيين السوريين، من دون أن يقوم نظام الأسد بردّ واحد، أو بردع واحد، لتلك الاعتداءات. ومع ذلك، لا يتوانى بعض الإخوة المثقّفين العرب عن اتّهام الثورة السورية بالتآمر مع العدو الصهيوني للقضاء على نظام المقاومة السوري، الذي لا يريد هؤلاء التذكّر بأنه لم يقم بأيّ دعم لغزّة خلال هذه المدّة كلّها من الإبادة الإسرائيلية في فلسطين، مع أن حركة حماس حليفة له، ويتلقى من قادتها الشكر المتواصل (على ماذا؟)، وأنه تخلّى عن حليفه الأول والأكثر أهميةً، حزب الله، حين بدأت إسرائيل بتصفيته واغتيال قادته ورموزه.

يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب أيضاً إلى إعادة القول، عند أيّ تعليق على حدث سوري، إن الفصائل الجهادية لا تمثّل الثورة السورية، وإنها أصبحت تحصيل حاصل بفعل تبادل توازن القوى بين هذه الدولة أو تلك، وإن الثورة السورية ليست ثورةً إخوانيةً، حتى لو كانت غالبية البيئة الحاضنة لها بيئة إسلامية متزمّتة، لكن لهذا التزمت والتشدّد أسباباً كثيرة تبدأ منذ ما قبل الثورة بكثير، منذ أن عمل النظام على تهميش الريف والبلدات والمدن البعيدة، وتفقير سكّانها، ومنع التنمية عنهم، وتركهم نهبة لرجال الدين الذين فتح لهم النظام الباب على مصراعيه. ثمّ لاحقاً، بعد الثورة، وقع عليهم الظلم الأكبر والتهجير والتنكيل والحصار، واحتلّت مليشيات طائفية تابعة لإيران أماكنهم، وكبر أولادهم في مخيّمات لم يعرفوا فيها غير المزيد من القهر والذلّ.

يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب في كلّ مرّة إلى أن نعيد لهم ما فعله نظام الأسد بالسوريين وبسورية كلّها (وما زال يفعله حتى اللحظة)، نحاول أن نشرح لهم لماذا نفرح بأيّ شيء يمكنه أن يخلخل الثبات الحاصل في الوضع السوري رغم مخاوفنا كلّها، وأن نقرأ لهم سيرة تغريبتنا ذاتها في كلّ مرّة، ومع هذا تراهم يتجاهلون ذلك كلّه، ويردّدون كلاماً لم يملّوا من ترديده: "لو وقعت سورية ستقع العروبة كلّها"، وكأنّ سورية ليست سوى نظامها الذي يخشون عليه من السقوط خشية أن تتخلخل بديهياتهم الجوفاء مثلهم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.