هل يشكل تغيير وزير التعليم في مصر فارقاً؟
(1)
لم ألتفت كثيراً إلى خبر التعديل الوزاري الذي جرى في مصر أخيراً، فالجميع يعلم أنّه ليس خبراً مهماً كثيراً، ففي نظام حكم شديد المركزية، يكون الوزير هو مجرد سكرتارية لتنفيذ التوجيهات وليس أكثر، لا حول لهم ولا قوة، ولذلك إن تغير وزير هنا أو هناك أو حتى تغيرت الحكومة برمتها، ليس بالخبر الهام. لكن، ما جعلني أهتم بشكل أكبر كان خبر تغيير وزير التربية والتعليم وتعيين آخر بدلاً منه، فموضوع التعليم في مصر هو الموضوع الأكثر تعقيداً وتأثيراً على جميع العائلات المصرية، وبشكل شخصي، يؤرّقني كثيراً مثلما يؤرّق معظم المصريين.
بدأ الوزير الجديد، رضا حجازي، أعماله بالاستعراضات المعتادة وبعض الاحتفالات والتصريحات النارية. كان الملفت أنّ أول نشاطه وزيراً تكريم الفنانة لبلبة عن دورها مديرة مدرسة في أحد الأعمال الدرامية في رمضان الماضي. بالطبع أحبّ لبلبة كثيراً، فهي فنانة موهوبة وجميلة، وأمتعتنا بأعمالها منذ كنا صغاراً. لكن، ما هي الرسالة التي يرسلها الوزير الجديد عندما يستهل أعماله بتكريم فنانة قامت بتمثيل دور مديرة مدرسة؟ تذكر التغطية الصحافية أنّها بسبب تقديم صورة متميزة عن المدرسين ومديري المدارس، لكنّ افتتاح أعماله بتكريم ممثلة يعدّ مؤشّراً لاهتمام ذلك الوزير بالمظاهر وليس الجوهر، فتحسين صورة المدرسين والعملية التعليمية هو الأولوية بالنسبة إليه، أما تحسين الواقع وتحسين جودة العملية التعليمية بحدّ ذاتها فيبدو أنّها آخر الاهتمامات.
بمرور الأيام، انطلقت تصريحات ناريّة من الوزير الجديد عن تخفيف المناهج مع استمرار عملية التطوير، لكنّه لم يتحدّث كثيراً عن مفهومه للتطوير، وعن رؤيته وخطته، وماذا سيفعل حيال المشكلات المزمنة المتراكمة منذ سنوات، ثم فاجأنا الوزير بأخبار زيارة بعض المدارس مع التقاط صور فوتوغرافية له مع تلاميذ صغار يغسلون أسنانهم في حمّامات مدرسية نظيفة، كانت التعليقات تتعجّب عن نوعية المدارس التي يغسل التلاميذ الصغار فيها أسنانهم بشكل تلقائي في أثناء مرور الوزير مصادفة، وما هي تلك المدارس التي بدأت بها الدراسة قبل موعدها الرسمي عدة أسابيع، ونحن في الإجازة الصيفية الرسمية، أو ما هي نوعية المدارس التي فيها حمامات نظيفة كالتي ظهرت في الصور؟
لا تزيد نسبة الإنفاق على التعليم الأساسي والجامعي عن 2.4% من الموازنة العامة
كانت للوزير السابق، طارق شوقي، رؤية ما، لم يستطع تحقيقها. ورغم كلّ الإخفاقات، كان له مشروع وأحلام كثيرة خاصة بفكرة تطوير التعليم، الوزير السابق حاصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية، وله إسهامات علمية في جامعات أميركية عديدة، وشغل منصباً هاماً في منظمة اليونسكو في الشرق الأوسط، قبل أن يتحمّس لفكرة تطوير التعليم في مصر. في البداية، طرح فكرة بنك المعرفة، وجرى استقدامه ليكون ضمن مستشاري رئيس الجمهورية منذ عام 2015. لكنّ النيات الطيبة لا يكون لها مكان في مفرمة الروتين الحكومي، والأحلام العريضة تتبخّر وتضيع داخل المنظومة الإدارية العقيمة، وأمام سياسات الشو الإعلامي، فهناك قلاع حصينة من اللوائح التنظيمية المعقدة، وهناك كهنة من الموظفين القدامى الرافضين أي أفكار أو أساليب جديدة.
على سبيل المثال، اعتمد الوزير السابق على فكرة استبدال الكتاب الورقي بالتابلت، لكن يبدو أنه لم يضع في اعتباره تدهور حالة البنية التحتية الخاصة بالاتصالات والإنترنت في مصر، فهناك قرى وأماكن نائية تفتقر لتلك الخدمات، بل تفتقر المدارس المصرية الحكومية المقومات التكنولوچية وأيضا المعامل والوسائل التعليمية، بل يفتقر معظمها للأساسيات، وهناك شُح ونقص كبير في المقاعد وعدد الفصول وأيضا دورات المياه ومقومات هامة جدا.
صحيحٌ أنّ الوزير السابق حاول الاعتماد على طرق تدريس تدعم جزء التفكير والإبداع، وليس الحفظ والتلقين كما اعتدنا طوال عشرات السنين الماضية، ولكن يبدو أن هذا قوبل بمقاومة كبيرة من نسبة كبيرة من التلاميذ وأسرهم ونسبة أكبر من المعلمين، فمنذ عقود طويلة ويعتمد التعليم المصري على الحفظ والتلقين، بهدف إحراز أكبر درجات في الامتحانات، ودخول كليات يطلق عليها كليات القمة، بعض النظر عن درجة الفهم والإدراك، وبغضّ النظر أيضا عن متطلبات سوق العمل وتطوّراته.
النيات الطيبة لا يكون لها مكان في مفرمة الروتين الحكومي، والأحلام العريضة تتبخّر وتضيع داخل المنظومة الإدارية العقيمة
كان من اللافت للنظر أيضاً احتفاء مجلس النواب بإقالة الوزير السابق، رغم أنّهم (نظرياً) هم نواب الشعب الذين لديهم سلطات تقديم طلبات إحاطة أو استجواب الوزير إن أخطأ أو تقويم مساره. أتذكّر أيضاً أنّ الوزير السابق طالب بزيادة الميزانية المخصصة عدّة مرات، حتى يستطيع تطبيق الإصلاحات المطلوبة، أو بناء مدارس جديدة مجهّزة وتدريب معلمين جدد، ولكن مجلس النواب رفض ذلك بحجّة أن الميزانية لا تسمح، في مخالفة للنص الدستوري، ولم يتساءل أحد عن جدوى توجيه معظم الميزانية إلى مشروعات الطرق والكباري (الجسور) أو مشروعات أخرى ليس لها دراسات جدوى كافية، أو مشروعات وبنود أخرى ليست ذات أولوية. وطبقا للدستور المصري، يفترض ألا تقل ميزانية التعليم عن 4% للتعليم الأساسي و2% للتعليم الجامعي، ويتم زيادة تلك النسب تدريجيا حتى تصل للمعدلات العالمية، ولكن الواقع يختلف تماماً عن النص، فللعام السابع على التوالي تتجاهل الحكومة والبرلمان ذلك النص الدستوري، ولا تزيد نسبة الإنفاق على التعليم الأساسي والجامعي عن 2.4% من الموازنة العامة.
(2)
كانت لي تجربة في التعامل أخيرا مع المنظومة الإدارية العتيقة لوزارة التربية والتعليم، فنظراً إلى الوضع الاقتصادي في السنوات الأخيرة، اضطررت لنقل أبنائي من مدارس خاصة، عالية التكلفة إلى حد ما، إلى مدارس رسمية حكومية متميزة، أقل في التكلفة. كانت الصدمة الأولى تلك الإجراءات والخطوات التي استمرّت عدة أشهر، فالتعليمات الإدارية والاجراءات الورقية لتحقيق ذلك كانت غاية في التعقيد، واحتاجت ورقا وطلبات وتوقيعات لابدّ منها، رحلات مكوكية قضيتها عدة أشهر بين المدرسة القديمة والإدارة التعليمية ثم المدرسة الجديدة، ثم عودة إلى المدرسة القديمة للتصديق ثم إدارة التأمين الصحي التعليمي، وكل خطوة لابد لها من رسوم وطوابع ودمغات وتوقيع من أحد الموظفين، بالإضافة إلى الطوابير الطويلة في أماكن حكومية غير مؤهلة لاستقبال أعداد كبيرة من الجمهور.
الصدمة التالية لي وللأولاد أنّ تلك المدارس الحكومية المتميزة كانت لا تختلف، بشكل جوهري، عن الأخرى غير المتميزة التي يرتادها غالبية التلاميذ في مصر، ربما كانت المباني حديثة بشكل نسبي مقارنة بمثيلاتها، ولكن المنظومة الإدارية نفسها، حيث الارتجال والعشوائية في معظم الأمور. تخلّيت عن آمال وجود نشاط ثقافي أو رياضي موازٍ لعملية تعليم المواد الدراسية، فالمدرسة الجديدة كانت تعاني من نقص شديد في أعداد المعلمين، فما بالك بجودة عملية التدريس ذاتها؟
كنت في بداية الأمر أتعجب من ذلك السباق المحموم بين الأهالي على سرعة حجز الدروس الخصوصية قبل بدء الدراسة، ولكن لضعف مستوى المدرسين أو قلة أعدادهم أو عزوف بعضهم عن القيام بواجبه كما يجب دور رئيسي في أن تتحوّل المدارس لمجرّد جهة لتسجيل الطلاب ولعقد الامتحانات وللحصول على الشهادة فقط لا غير، فقبل بدء الدراسة يسارع أهالي التلاميذ بالتعاقد مع مراكز الدروس الخصوصية التي أصبح بها فصول مجهّزة بشكل أكبر من التي في المدارس. وبعد عدة أسابيع من بدء الدراسة، يبدأ التلاميذ والمدرّسون بالغياب عن المدرسة الرسمية والمواظبة على مراكز الدروس، يطلقون عليها مصطلح "سناتر" فشرح الدروس فعليا يتم خارج المنظومة الرسمية، ولم يستطع الوزير السابق إيقاف ذلك، ولا يرغب الوزير الحالي في تغيير ذلك، فالموضوع أعقد من مجرّد قرارات فوقية.
كهنة وموظفون يقاومون أيّ محاولة للإصلاح والتغيير، وهناك أيضاً أهل وأولياء أمور يفضّلون الحلول السهلة
وزير التعليم المصري الحالي، رضا حجازي، في الأساس من داخل المنظومة التعليمية ذاتها، عمل مدرسا للعلوم والكيمياء عدة سنوات في محافظة الدقهلية، وحصل على الدكتوراه في إدارة المناهج وطرق التدريس من جامعة المنصورة، وعمل سنوات في مجال تعليم الكبار ومحو الأمية ثم تأهيل المعلمين، وكذلك الإشراف على الامتحانات للثانوية العامة. ولذلك ليس متوقعا أي تطوير أو تعديل للمنظومة التعليمية في مصر، فقد جاء الوزير الجديد من داخل المنظومة القديمة ليحافظ عليها بعدما فشل سلفه في الإصلاح للتطوير.
وصراحة، لا يتحمّل الوزير السابق اللوم كله من وجهة نظري، فهناك كهنة وموظفون يقاومون أي محاولة للإصلاح والتغيير، وهناك أيضا أهل وأولياء أمور يفضّلون الحلول السهلة واللجوء للدروس من أجل إحراز الدرجات الأعلى بغض النظر عن مفهوم عملية التعليم، والعنصر الأهم هو غياب الإرادة السياسية العليا لإصلاح حال التعليم في مصر أو اعتباره أولوية، وهذا هو مربط الفرس، فالتوجه العام هو الاستثمار في الأراضي والعقارات والمشروعات السياحية العملاقة، وما يتطلبه ذلك من إنشاء شبكات طرق جديدة لخدمة ذلك، أما الاستثمار في الإنسان والاهتمام بالتعليم كما يجب أن يكون فليس من أولويات تلك المنظومة.