في مسألة قانون الإجراءات الجنائية المصري
تُعَدُّ عملية تشريع القوانين من العمليات المُعقّدة طويلة المدى، تحتاج مجهوداً كبيراً حتّى يصبح التشريع صالحاً عقوداً مُمتدَّة بعد ذلك، ويكون صالحاً للتطبيق على الجميع، من دون محاباة لفئة دون أخرى. وتخضع عملية التشريع أيضاً لتوازنات القوى السياسية الموجودة وتفاعلاتها وقت صياغة ذلك التشريع أو القانون، فإذا كانت القوى متوازنةً يصبح التشريع، سواء قانون أو دستور، أكثر ميلاً إلى التوازن والعدالة. ولذلك، أحيانا، تكون التشريعات بعد قيام الثورات، أكثر ثوريةً وأكثر ميلاً إلى أيديولوجيا بعينها، وربّما تصاحب ذلك إجراءاتٌ عنيفةٌ أو ما شابه. أمّا إن كانت الأكثرية لقوى منفتحة وديمقراطية فتكون التشريعات أكثر ميلاً إلى الانفتاح والديمقراطية والحرّيات. وإن كانت القوى المسيطرة محافظةً أو أكثر ميلاً إلى السلطوية، فتكون التشريعات أكثر تحفّظاً وانغلاقاً.
في التاريخ المصري، كانت هناك محطّات عديدة تلتها صياغة تشريعات حسب التوازنات الموجودة وقتها، فبعد ثورة 1919 صيغ دستور 1923، الذي يُعَدُّ طفرةً كبيرةً في التشريع المصري، أعطى صلاحياتٍ واسعةً للحكومات البرلمانية وقيّد تقييداً كبيراً صلاحيات الملك، وهو الدستور الذي يُصنّفه بعضهم الدستورَ الأكثر ليبراليةً، بدء الحقبة شبه الليبرالية في مصر. أمّا عندما تدهورت الأوضاع، وتعاقبت حكومات ترغب في تقييد الحرّيات تقييداً كبيراً، وعندما ضج الملك من إزعاج ومناوشات حكومات حزب الوفد له، صدر دستور 1930، فقلّل من صلاحيات البرلمان لمصلحة الملك، حتّى انتُفِض على ذلك الدستور عام 1935. وبعد انقلاب الضباط الأحرار في 23 يوليو/ تمّوز 1952، كانت هناك صراعات عديدة بين الأجنحة داخل مجلس قيادة الثورة، ولذلك لم ترَ مسوَّدةُ دستور 1954 النورَ، رغم أنّها كانت المسوَّدة الأفضل من ناحية قيم الحرّيات والتوازن بين السلطات. وفي عام 1954 كان أوج الصراع داخل مجلس قيادة ثورة يوليو، فانقُلِب على الرئيس محمد نجيب والجناح الذي كان يُؤيّد عودة الديمقراطية أو عودة الجيش إلى الثكنات العسكرية، وانتصر جناح الشمولية والانغلاق، فبدأ جمال عبد الناصر بتأسيس نظام الحديد والنار، الذي لا تزال قواعده تحكمنا حتّى اليوم.
يحاول مَنْ صاغ قانونَ الاجراءات الجنائية إيهامنا بأنّ التعديلات انتصار للحرّيات والحقوق، وأنها تقلّل فترات الحبس الاحتياطي
أمّا الوثائق الدستورية اللاحقة، فارتبط كلّ منها بحدث سياسي أو تحوّل ما، لذلك كانت موادُّ في دستور 1971 أكثر رحابةً وتعدّديةً من الوثائق الدستورية التي سبقته، عندما أراد أنور السادات إرسال رسائلَ إنّ عصره سيختلف، وإنّ العهد الرئاسي الجديد لن يضيق بأحد، ولن يكون فيه قمع كما كان في السابق، غير أن تعديلاتٍ كثيرة حدثت بعد ذلك أفرغت موادّ الدستور تلك من مضمونها، قبل تطبيق تلك الاستحقاقات.
وفي مصر هذه الأيام حالةٌ من الجدل والنقاشات، بعدما أعلنت اللجنة التشريعية لمجلس النواب (إعلاناً مفاجئاً) النيّة في إصدار قانون جديد للإجراءات الجنائية، وهو القانون الذي ينظّم درجات العملية القانونية كلّها، منذ توجيه الاتهام وإجراء التحقيق، ويعتبره بعضهم بمثابة الدستور الثاني، لأنّ أهمّيته بدرجة أهمّية دستور البلاد، فهو الذي يحكم العلاقة بين الدولة والمواطن، وجميع إجراءات الاتهام والتقاضي، وإجراءات القبض على المشتبه فيهم أو الحبس الاحتياطي، وكذلك درجات المحاكمات كلّها بعد ذلك. لذلك، ليس ذلك القانون حِكراً على المهتمّين بالعمل العام والشأن السياسي فقط، بل هو مهمّ للمواطنين المصريين كلّهم بشكل عام، حاكماً ومحكوماً.
كان القانون الحالي للإجراءات الجنائية (صيغ في 1945 – 1950)، وقتها يُعتَبر ثورةً تشريعية وإنجازاً كبيراً (بمقاييس ذلك الوقت) في التشريعات القانونية العربية عموماً. ومع الوقت، بدأت الظروفُ الاقتصادية والاجتماعية تتغيّر، وتغيّرت الثقافة والممارسات، وكذلك العلاقات بين الناس، وظهرت مشكلاتٌ مُستحدَثةٌ، وأمورٌ وقضايا جديدةٌ، لم تكن موجودةً في العقود السابقة، فعُدّل القانون، وأضيف عديدٌ من الموادّ في مدار 74 عاماً. عديدٌ من تلك التعديلات كان بغرض التشديد وتغطية أنواع الجرائم كافّة، وكثير من التعديلات صيغت لأغراض سياسيةٍ أو كانت بحُجَّة الظروف الاستثنائية، واستمرّ تطبيق تلك التعديلات الاستثنائية لتطاول المُعارضين للسلطة في مرّ العصور.
هذه الأيام، يحاول مَنْ صاغ القانونَ إيهامنا بأنّ تلك التعديلات الجديدة هي انتصار للحرّيات والحقوق، وأنّ هدفها الحقيقي هو تقليل فترات الحبس الاحتياطي المطوّلة أو أنّها تطبيق عملي لتوصيات الحوار الوطني أو توصيات لجان المراجعة الدورية لحالة حقوق الإنسان في مصر، لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقولون، فحتّى لو عُدّلت بعض الموادّ التي تقلّل فترة الحبس الاحتياطي، فإنّ هناك العديد من الموادّ التي تنسف حقوق المتّهم وضمانات المحاكمات العادلة من الأساس، بالإضافة إلى اعتراضاتٍ قانونيةٍ أخرى مُتعدّدة. في المحطات كلّها، التي تحاول فيها السلطة صناعة تشريعات بهدف التمديد في السلطة أو التشديد على المعارضين، يدسوّن تلك التشريعات وسط تشريعات أخرى قد تكون أفضل حالاً، مثلما حدث في تعديل دستور 1971 في عام 1980، عندما أضاف السادات مادّةَ الشريعة الإسلامية ليهلّل لها العوام، لكن مُرِّرت مادّةٌ أخرى تمدّ الفترات الرئاسية للرئيس نفسه إلى ما لا نهاية، وغير ذلك من التعديلات، التي حدثت في عهد حسني مبارك، قيل وقتها إنّها تعديلات لتدعيم الديمقراطية، وجعل الانتخابات مُتعدّدةً بدلاً من الاستفتاء، لكن المقصود، في الحقيقة، كان إعادةَ انتخاب مبارك، ثمّ ابنه جمال، تحت إجراءات قد تبدو ديمقراطيةً في الظاهر.
ربما خُففت في القانون الجديد مُدد الحبس الاحتياطي طبقاً للتوصيات الدولية. وفي المقابل، شُدّدت موادّ عديدة توسّع مبرّرات الحبس الاحتياطي، وبذلك لن يكون هناك تغيير يُذكر. فحتّى العديد من الضمانات ضمن عدالة المحاكمات تم التغاضي عنها أو اعتبارها غير ملزمةٍ، وهي الضمانات التي كانت تُنتهَك بالفعل من السلطة التنفيذية، وكان ذلك يُعَدُّ انتهاكاً ومخالفاتٍ قانونيةً عند تطبيق القانون. ولكن في المسوَّدة المُسرَّبة، أصبحت الانتهاكات مُقنَّنةً، واختفت الضمانات الإجرائية، التي كان يعتبرها بعضهم مصدرَ إزعاجٍ، فقد تُؤدِّي إلى إفلات بعضهم من العقاب. المشكلة الأكبر أنّ قانون الإجراءات الجنائية وموادَّ الحبس الاحتياطي لا تُؤثّر فقط في المهتمّين بالشأن العام والأمور السياسية، بل تُطبّق على الجميع، وربّما يوماً ما على من يقومون بالتشريع حالياً. فبشكل عام، أصبحت هناك حالة من استسهال الحبس الاحتياطي المطوّل، حتّى أصبح عقوبةً تماثل تأثير الاعتقال الإداري، وحتّى إن خُفِّفت بعض مُدد الحبس الاحتياطي، فيُعَدُّ التوسّع في مبرّرات الحبس (إلى جانب الممارسات التعسّفية) نسفاً لكلّ تلك الادعاءات بتحسين وضع القانون أو تغيير فلسفته إلى الأفضل.
يُفترض أن الحبس الاحتياطي إجراء احترازي أخير وليس أوّلياً، يُلجأ إليه عند وجود احتمالية لهروب المتّهمين أو إمكانية إتلافهم للأدلَّة أو التأثير في الشهود، ويُتّخذ بعد عدّة خيارات قبله، مثل قرار إخلاء السبيل بضمان محلّ الإقامة أو بعد دفع كفالة، أو فرض الإقامة الجبرية على المتّهم ومنعه من السفر، ولكن عند التطبيق العملي نجد أنّ سلطات التحقيق تستسهل إجراء الحبس الاحتياطي وإيداع المتّهم في السجن تحت ذمّة التحقيق، لتعاني الأسرة والأبناء من غياب العائل. والتكدّس في السجون لا يطاول مُعتقلي الرأي والسياسيين فقط، بل أيضاً هناك ما يمكن أن يُطلَق عليه عقيدة "الاستسهال في الحبس"، التي طاولت قطاعاتٍ عديدةً في المجتمع يُستسهَل حبسهم احتياطياً لمُجرَّد الاشتباه أو لجنح بسيطة لا تستدعي الحبس. والحبس الاحتياطي يُفترَض أنّه احتياطي، ويُعَدُّ بمثابة احتجاز مُؤقَّت قيد التحقيق، لكنّ مكان الاحتجاز يكون في السجون المصرية، وليس في أماكنَ مُؤقَّتةٍ مُخصَّصة، لذلك تطبّق على المحبوس احتياطياً (قد يكون بريئاً في النهاية) قواعد الحياة نفسها في السجون تقريباً، فما بالك بالسجون وبقواعدها الخاصّة وبحياتها البائسة، وبكيف يخرج الإنسان من تلك التجربة؟
تتحدث عشرات من التقارير الحقوقية عن تجنيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مراهقين وشباباً صغاراً، ممّن حبسوا احتياطياً في ذمّة قضايا رأي بسيطة، أو لنشر تغريدة ساخرة تحمل بُعداً سياسياً، ليخرج هؤلاء من السجون محملين بتلك الأفكار المُتعصِّبة. وبالمثل في القضايا الجنائية أو غير السياسية، قد يستسهل المُحقِّق قرارَ الحبس في قضايا لا تستدعي الحبس كالجنح البسيطة أو مشاجرات بسيطة بين أفراد أو خلافات عائلية أو حتّى أخطاء بسيطة في لحظة ضعف أو غير ذلك، ليخرج الشخص من السجن بعد فترة الحبس الاحتياطي خبيراً في أنواع المُخدِّرات والسلاح أو بفِكَر إجرامية عديدة مُبتكرة، التي لم يكن يعلم عنها شيئاً.
حتّى لو عُدّلت في قانون الإجراءات الجنائية المصري موادّ تقلّل فترة الحبس الاحتياطي، فهناك أخرى تنسف حقوق المتّهم وضمانات المحاكمات العادلة
بالإضافة إلى مشكلة التكدّس في السجون، وغياب معايير عديدة تحافظ على الآدمية والحياة الصحّية والنفسية السليمة، فإنّ استسهال الحبس، وتكديس الناس في السجون بسبب قضايا سياسية أو حتّى جنحٍ جنائيةٍ بسيطةٍ، لهما آثار اجتماعية سالبة كُبرى، فقد يُؤدّي ذلك إلى تدمير بعض العائلات بسبب العوز أو بسبب غياب العائل، بخلاف الوصمة الاجتماعية التي يعاني منها من يُخلَى سبيله. وبشكل عام، استسهال الحبس الاحتياطي يُخسّر الدولةَ مواردَ بشريةً كثيرة، فخلف الأسوار هناك أطبّاء ومهندسون وعلماء، وهناك طلبة نوابغ وعباقرة، يخرج بعضهم ناقماً على السلطة والمجتمع، أمّا المشكلة الأكبر فهي التكلفة المادّية، التي تتكبّدها الدولة لبناء سجون جديدة أو لتشغيل السجون القديمة.
لا يبدو أنّ هناك تغييراً ما في عقيدة السلطة ولا في نظرتها إلى القضايا الأمنية أو السياسية، لذلك لا يُفهَم ما يردّده أنصار القانون الجديد بأنّه يُمثّل فلسفةً جديدةً للإجراءات الجنائية. فالفلسفة والعقلية القديمتان لا تزالان سائدتين، والتغييرات الشكلية في قانون الإجراءات الجنائية لا تُمثّل أيَّ تغيير يُذكَر في جوهر القانون، بل إنّ جوهرَ الفلسفة القديمة لا يزال سائداً، وهو الحلول الأمنية للمشكلات، والتوسّع في الحبس والقمع، ومزيد من التخويف، لكنّ التاريخ يقول إنّ تشديد القوانين وتكديس الناس في السجون ليسا حلّاً للأزمات ولا مُنقِذاً من الغضب المُتراكِم.