هل يسقط الصومال مجدّداً؟

27 يونيو 2024
+ الخط -

كثر الحديث أخيراً عن انسحاب عسكري لبعثة الاتحاد الأفريقية الانتقالية (أتمس) من جيوب عسكرية واستراتيجية في جنوب الصومال ووسطه، والتي يصل قوامها إلى نحو 15 ألف جندي عسكري بعد سحب آلاف الجنود منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، ومن المقرّر سحب أربعة آلاف جندي أفريقي في غضون أربعة أشهر (بين يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول المقبلَين)، وتسليم ملفّ الأمن للقوات الصومالية، وردع هجمات حركة الشباب (موالية لتنظيم القاعدة) التي خسرت مدناً عديدة، تحديداً في أقاليم جلمدغ وهيران وشبيلى الوسطى، منذ شنّ الجيش الصومالي عمليات عسكرية واسعة في نهاية عام 2022، لكنّ توقّف عمليات الجيش ضدّ الحركة أخيراً أعطاها زخماً وإكسير حياة جديدَين لتشنّ هجمات مميتة ضدّ أهداف عسكرية وسط البلاد.

جاءت نتائج الحرب، التي أعلنتها الحكومة الفيدرالية، مخيّبة، وكانت عكس التوقّعات بإلحاق هزيمة عسكرية بحركة الشباب الإسلامي في غضون عام، وذلك حسب تصريحات الرئيس الصومالي في أكثر من مناسبة، لكنّ الحركة، التي تستخدم أسلوب حرب العصابات، تمكّنت من تبديد هذه الإعلانات المتكرّرة على مسامع الصوماليين في الداخل والخارج، وانتهت مآلاتها بحربٍ عشوائية يخوضها الجيش الصومالي، وتنتهي أحياناً بجولاتٍ عسكرية خاطفة، ثمّ تراجع غير مسبوق في الجبهات، لتفسح المجال لمسلّحي الحركة بالعودة أو ترقّب تحرّكات الجيش واستهداف قواعده ومقارّه العسكرية، تكتيك عسكري تمارسه الجماعات المسلّحة أو العصابات الثائرة لاستنزاف الجيش الذي يفوقها بالعدد والعتاد، فإذا استمرّت هذه الحالة، فإنّ تراجع الجيش الصومالي من الجبهات وارد، ويُحتمل أن تعود تلك المناطق إلى قبضة "الشباب" مجدّداً.

الحرب التي يخوضها الصومال ضدّ التنظيمات المسلحة ذات النزعة الأيديولوجية، ستكون طويلة وتأخذ فترة لا يمكن التكهّن بمآلاتها

ثمّة أسئلة حائرة تلوكها الألسنة، ما هي مآلات الوضع الأمني في الصومال، بعد انسحاب البعثة العسكرية الأفريقية من القواعد القريبة من العاصمة مقديشو، حيث انسحبت تلك القوات الأفريقية من مقارّ عسكرية على بعد 60 و90 كيلومتراً من مقديشو، وسلّمت ملفّ الأمن للقوات الصومالية. ويطرح استمرار مسلسل الانسحابات العسكرية للجنود الأفارقة من دون إجراء تقييم عسكري بشأن مدى قدرة الجيش الصومالي على تماسكه داخلياً لضبط أمن تلك القواعد والمناطق التي يسيطر عليها، يطرح احتمال عودة هذه المناطق مجدّداً إلى يد حركة الشباب أو المليشيات القبلية، ما لم تتمكّن الحكومة الفيدرالية من وضع استراتيجية عسكرية وإدارية للحفاظ على أمن تلك المناطق، كما أنّ إمكانات العودة إلى الأحراش والمناطق مرّة أخرى، بالنسبة إلى الجيش غير متوفّرة بالقدر الذي تضغط فيه الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون، سواء الموالية لتنظيمات فكرية أو عشائرية، على استعادة المناطق التي تخسرها.

ليس خافياً أنّ قدرة الجيش الصومالي على استلام ملفّ الأمن كاملاً تعوقه عقباتٌ وتحدّياتٌ كثيرة، فأولى تلك العقبات تتمثّل في معضلة الولاءات والانقسامات والمناطقية، التي هي اللغة السائدة في "كانتونات" المنظومة العسكرية، بالإضافة إلى أنّ غياب الدعم اللوجستي والفنّي هو القشّة التي تقصم ظهر البعير، وتجعل مجهوده العسكري وتضحياته الجسام بلا طحين، إلى جانب توسّع نطاق العمليات في أقاليم عدة تنتشر فيها حركة الشباب، ما يشتّت جهود الجيش، ويُضعف قدراته العسكرية، نتيجة انعدام التنسيق الميداني وتوفّر استراتيجية عسكرية لإدارة الحرب في معركة يراد لها الخلاص من أزمات الصومال الأمنية الطويلة.

أصبحت خطابات الرئيس الصومالي شيخ محمود لا وزن لها في ميزان المعارك

الحرب التي يخوضها الصومال ضدّ التنظيمات المسلحة ذات النزعة الأيديولوجية، ستكون طويلة وتأخذ فترة لا يمكن التكهّن بمآلاتها، بعد تسريبات من مسؤولين عسكريين أميركيين عزّزت فرضية تنامي نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ولاية بونت لاند الفيدرالية، مع تفنيد إدارة هذه الولاية المزاعم الأميركية بحجّة عدم توفّر دلائل تثبت خطورة انتشار هذا التنظيم في المنطقة الشمالية الشرقية من الصومال. وتأتي هذه التسريبات الأميركية بعد أنباء عن صعود للتنظيم وانتشاره في مناطق جبلية (جبال على مسكات) على حساب مسلّحي حركة الشباب التي خسرت بعضاً من نفوذها نتيجة اشتداد المعارك في الأقاليم الوسطى من البلاد، وفتح جبهات حرب مشتعلة أمام "الشباب"، التي لم تقدر على الصمود أمام حربٍ غير متكافئة تخوضها ضدّ الجيش الصومالي، وتنظيم الدولة الإسلامية، دفعة واحدة. ولا تزال المعارك في ولاية بونت لاند بين التنظيمَين المسلّحَين سجالاً مفتوحاً، لا غالب ولا مغلوب فيها، لكنّ ولاء بعض القبائل في المنطقة لصالح أمير "داعش"، عبد القادر مؤمن، يعطيه الأفضلية والتفوّق العسكري الميداني لمواجهة مسلّحي الحركة، والمؤكّد أنّ صراع التنظيمَين في مساحات جبلية وعرة يختزل الزمن والمسافات مستقبلاً إذا أرادت بونتلاند القضاء على منتصر مرهق بدنياً وعسكرياً.

لم تتحقّق الرغبة، التي روّجها أنصار الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، في تحقيق انتصار عسكري سريع ضدّ حركة الشباب، وأصبحت خطابات شيخ محمود لا وزن لها في ميزان المعارك وترجيح كفّة القتال لصالحه، بل ازدادت غرابة في تناقض مضامينها بين الوعيد تارّة والحوار تارّة أخرى، ما يعكس وجود ضبابية في الاستراتيجية المتّبعة لحربٍ معلنةٍ ضدّ "الشباب"، توقّفت جزئياً راهناً، وقضت على الأقلّ على نفوذ الحركة في الأقاليم الوسطى إثر تحرير مدن استراتيجية، وانتهت فترة الوعود، بعد مرور عامَين، والجيش الصومالي منهك وخسر مئات من أفراده وعشرات من ضبّاطه وجنرالاته، وتبدأ مرحلة الفوضى السياسية، وهي مشهد اعتاده الصوماليون بإثارة الاضطرابات السياسية في البرلمان والحكومة، حتّى لا يقدر الرئيس الحاكم بعد مرور عامَين من حكمه على خوض انتخابات رئاسية جديدة، تضمن له فوزاً سهلاً، ما يبدّد كلّ الجهود الأمنية والعسكرية، ويعيد الأوضاع مجدّداً إلى مربع الصفر.

الخشية من إمكانية أن تتحوّل مقديشو ساحةَ معارك جديدة بسبب الفوضى الأمنية، نتيجة عدم توافق الأطراف السياسية على آخر تعديلات دستورية

تفصلنا أشهر قليلة عن الزمن الموعود لإجلاء القوات الأفريقية من البلاد، أواخر ديسمبر/ كانون الأول المُقبل، وتوحي المؤشّرات الميدانية أنّ الاستعدادات العسكرية للحكومة الفيدرالية غير كافية، وربّما يتطلّب الأمر تشكيل بعثة أمنية أفريقية بديلة (قوامها 12 ألف جندي) لحماية مقارّ الحكومة الفيدرالية ومرافقها في العاصمة مقديشو، لكنّ هذا لا يعني أنّ خطر المواجهات المسلّحة وتهديدات حركة الشباب قد تزول، والخشية تكمن في إمكانية أن تتحوّل مقديشو ساحةَ معارك جديدة بسبب القلاقل السياسية والفوضى الأمنية، نتيجة عدم توافق الأطراف السياسية على آخر تعديلات دستورية، أقرّها البرلمان في مارس/ آذار الماضي، هذا، إلى جانب وجود احتمالات انفراط العقد بين الحكومة المركزية والولايات الفيدرالية، وتحديداً ولاية جنوب غرب الصومال وجوبالاند، اللتين تشكّلان الثقل العسكري والإداري لحركة الشباب.

لا يمكن توقّع حجم الأضرار والانعكاسات الأمنية الناجمة عن انسحاب القوات الأفريقية بالنسبة إلى الصومال. وليست هذه الخشية، التي يبديها بعض المراقبين، نابعة عن فترة تجريبية قصيرة تتمكّن فيها القوات الصومالية من الحفاظ على أمن المقارّ والمرافق الحساسة. الخوف يكمن، في الأمد الطويل، بشأن قدرة تلك القوّات المحلّية على تثبيت أمن تلك المقارّ ومن دون الانخراط أو التأثّر بمجريات السياسة وتقلباتها، وما شهده الصومال في عام 2021، في أعقاب تمديد غير شرعي لسلطة الرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله فرماجو من البرلمان الفيدرالي، قوبل برفض سياسي وعصيان عسكري لوحدات من القوات الصومالية، خضوعاً لرغبة سياسيين وقيادات عشائر، خير دليل على ذلك، فإلى أيّ مدىً يمكن الوثوق بجيش ولاؤه المطلق للعشيرة أو لقيادات سياسية في حفظ الأمن والاستقرار؟ فإذا لم تعقب عملية الانسحاب الأفريقي من الصومال استراتيجية أمنية وعسكرية للجيش الصومالي تبدأ بمكافحة الفساد والمحسوبية وتنظيم صفوفه، وتشكيل بنيته الهُويّاتية والعقائدية، فإنّ خطر سقوط الصومال أمنياً هو الراجح، في ظلّ نزاع إقليمي بين الصومال وإثيوبيا، التي عُرفت بيدها الطولى في تأزيم أوضاع هذا القطر العربي منذ عقود.