عن جيوبوليتيك جديد في القرن الأفريقي

31 مايو 2024
+ الخط -

شهد القرن الأفريقي منذ الحرب الباردة تنافساً دولياً، خاصّة بعد انتهاء القطبية الثنائية في تسعينيات القرن الماضي، وانهيار دولٍ أفريقيةٍ عديدة كان لديها ارتباط وثيق بالاتحاد السوفييتي، تعاظم هذا التنافس في الألفية الجديدة بعد إقبال غربي كثيف على موانئ دول المنطقة، وتحديداً جيبوتي، التي تعتبر ثكنة عسكرية تحتضن قواعد فرنسية وصينية وأميركية ويابانية، وتتّجه الأنظار، حالياً، نحو الصومال، بفضل موقعها الجغرافي والاستراتيجي.
الاهتمام المتزايد بهذه المنطقة ازداد مع تفجّر العدوان الإسرائيلي على غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (2023)، وتزايد هجمات الحوثيين، ونشاط القراصنة الصوماليين في مياه بحر العرب، وفي البحر الأحمر والمحيط الهندي، كما أنّ خريطة الصراعات بين دول المنطقة ترسمها ملامح توتّرات جديدة بين الصومال وإثيوبيا، بعد مُذكّرة تفاهم وقّعتها أديس أبابا مع هرجيسا في يناير/ كانون الثاني الماضي، إلى جانب الصراع بين الأطراف السودانية، الذي دخل عامه الثاني على التوالي، وهو صراع بات بلا أفقٍ مع احتدام المعارك، أخيراً، في محيط القصر الجمهوري في الخرطوم، وكأنّ لعبة الحرب بدأت للتو، ومن النقطة التي انطلقت فيها الشرارة في إبريل/ نيسان عام 2023.

الاهتمام الروسي بالمنطقة ينطلق من فلسفة مفادها؛ إنّ هيمنة القطب الواحد على المنطقة تشوبها التصدّعات

عكست زيارة الرئيس الكيني، وليام روتو، الولايات المتّحدة في نهاية مايو/ أيار الماضي اهتماماً أميركياً بالمنطقة، التي يشتدّ فيها التنافس الدولي، راهناً، بين روسيا والصين وتركيا ودول الخليج والولايات المتّحدة، إذ عدّت هذه الزيارة في سياق رغبة أميركية للملمة أوراق واشنطن من جديد، بعد الإطاحة بنظام التيغراي في إثيوبيا (2018)؛ الحليف التقليدي لواشنطن منذ التسعينيات، بالإضافة إلى جنوح أديس أبابا نحو بكين وموسكو على حساب الولايات المتّحدة، التي فقدت قوّة التأثير، والسيطرة على زمام المبادرة في إخماد حرائق دول المنطقة، سيّما إثيوبيا والسودان، وفشل جهود مبعوثيها إلى القرن الأفريقي، منذ عام 2020، في إقناع أطراف الحرب الإقليمية لوقف الاحتراب الداخلي، وتبدو نيروبي حالياً المُرشّحة لتكون حليفة واشنطن القوية في المنطقة، باعتبار نيروبي حليفة استراتيجية من خارج "ناتو"، خطوة جاءت تتويجاً لما وصفه خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، في المؤتمر الصحافي المشترك مع وليام روتو في البيت الأبيض، بالإنجاز التاريخي لستّة عقود من الشراكة بين البلدين، ما يوحي بأنّ نيروبي أضحت رقماً صعباً في الاستراتيجية الأميركية إزاء القرن الأفريقي، ودول جنوب الصحراء الكبرى. ولعلّ ما يثير الانتباه أنّ هذا الإعلان الأميركي يتزامن وثورة مضادّة للنفوذ الأميركي في غرب أفريقيا، بعد إعلان كلّ من النيجر وتشاد رغبتيهما في إنهاء النفوذ العسكري الأميركي، وبدء عملية الانسحاب الأميركية، تدريجياً، من قواعدها في نيامي وأنجمينا، وذلك ربّما بإيعاز من الكرملين صاحب الحظوة، راهناً، في تشكيل خريطة المتغيرات الجيوبوليتيكية الجديدة في غرب أفريقيا، سيّما في الدول الأفريقية، التي شهدت انقلابات عسكرية متتالية منذ عام 2020.
لم يعد خافياً أنّ الثقل الجيوسياسي الأميركي في القرن الأفريقي كان يمرّ عبر أديس أبابا منذ عقود، خصوصاً في ما يتعلق بملفّ مكافحة الإرهاب في المنطقة، تخطيطاً وتنفيذاً، والحرب بالوكالة أحياناً (التوغل العسكري في الصومال عام 2006)، لصدّ هجمات انتحارية تستهدف المصالح الغربية في المنطقة، لكنّ محاولة نيروبي نزع فتيل التوتّر بين مقديشو وأديس أبابا نتيجة مُذكّرة تفاهم وقّعتها إثيوبيا مع حكومة أرض الصومال مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، وجهودها في وقف النزاعات في السودان، ورعاية محادثات السلام بين الأطراف في جنوب السودان، هذه التطوّرات كلّها، وتلك الملفّات في يد نيروبي، توحي بأنّها تتناغم مع الرغبة الأميركية الجامحة في البقاء مُتصدّرة في الهيمنة على مجريات دول المنطقة، لأنّ أيَّ صراع قادم فيها سيخلط الحسابات والأوراق، وسيأتي بمتغيّرات جديدة تفرز لاعبين جدداً، ربما ستجعل من النفوذ الأميركي أثراً بعد خبر، كما يجري ويخطط، الآن، في غرب أفريقيا، التي لفظت أخيراً النفوذ الفرنسي والأميركي عنوة، ودفعة واحدة.

تُعدّ تركيا حليفاً قوياً للصومال بعد توقيع الاتفاقية التعاونية الأمنية، وأرسالها سفينة عسكرية إلى مقديشو، ما عكس جدّية أنقرة

رغم محاولات واشنطن المستميتة لتعزيز نفوذها في المنطقة إلا أنّ الدبّ الروسي يمارس نشاطه الدبلوماسي، وللمرّة الأولى يلتقي السفير الروسي لدى مقديشو الرئيسَ الصومالي حسن شيخ محمود، ووزير الخارجية أحمد معلّم فقي، وذلك استعداداً للمشاركة في قمّة سوتشي في أكتوبر المُقبل (القمّة الروسية الأفريقية)، التي ربّما سيحضر الرئيس الصومالي دورتها هذه، لأهمّيتها الاقتصادية، وأبعادها في إعادة تشكيل العلاقات الدبلوماسية بين مقديشو وموسكو بعد جفاء طويل، وذلك، بعد تعاظم النفوذ الروسي في أفريقيا، إلى جانب الصين، حيث إنّ سياسات بكين وموسكو تستهدف بالدرجة الأولى مجالات التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، بعيداً عن التدخّلات وممارسة الضغوط السياسية في الشؤون الداخلية لدول القارّة، التي تعتبر مسرحَ الانقلابات والديكتاتوريات في أفريقيا، ولعلّ الاهتمام الروسي بالمنطقة ينطلق من فلسفة مفادها؛ إنّ هيمنة القطب الواحد على المنطقة لم تعد قائمة على أركان متينه، بل تشوبها التصدّعات، وربّما تأتي الانعطافة الروسية نحو الصومال ومنطقة أرض الصومال وجيبوتي على خلفية استعداد روسي مُبكّر للهيمنة على ما تعتبره واشنطن جزءاً من عمقها الاستراتيجي والحيوي في أفريقيا، وذلك، في حال طرأت مُتغيّرات جديدة تُؤثّر في بيئة اللاعبين الدوليين في المنطقة، اتساقاً مع الانسحاب الأميركي من غرب أفريقيا، رغم أنّ طبيعة القرن الأفريقي الجيوستراتيجية مختلفة عن غرب أفريقيا، وتتمتّع باهتمام كبير لما تضمّ من مواقع استراتيجية، ومضائق مائية مُهمّة، تدفع واشنطن لخوض معركة كسر عظم مع القوى الصاعدة، سيّما الصين وروسيا.

لا يزال مشهد جلاء بعثة الاتحاد السوفييتي من الصومال إبّان الحرب الإثيوبية - الصومالية في عام 1977، وبروز واشنطن حليفاً استراتيجياً للصومال، وحصولها على امتيازات السوفييت، بما فيها إدارة ميناء بربرة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.. لايزال هذا المشهد يرسم الذاكرة السياسية الصومالية في ما يتعلّق بإعادة رسم علاقاتها مع موسكو، لكن، ربّما سيتكرّر هذا السيناريو وينقلب المشهد، هذه المرّة، على الولايات المتّحدة إذا فشلت في تعزيز نفوذها مع دول المنطقة، خاصّة مقديشو، التي تأمل في القضاء على المُهدّدات الأمنية بالتعاون معها قبل حلول عام 2026، وتنفيذ وعودها في بناء خمس قواعد عسكرية للجيش الصومالي، لكن، إذا فشلت الاستراتيجية الأميركية تجاه الصومال فربّما يأتي الدور عليها، لاحقاً، وسيكون بديلها متاحاً، خلسة أو تحت الأضواء الإعلامية، فحالياً، تُعدّ تركيا حليفاً قوياً للصومال بعد توقيع الاتفاقية التعاونية الأمنية بين البلدين في فبراير/ شباط الماضي، أعقب ذلك إرسال سفينة عسكرية إلى مقديشو في إبريل/ نيسان الماضي، ما عكس جدّية أنقرة في تنفيذ اتفاقياتها مع مقديشو، هذا، بالإضافة إلى التطورات الأخيرة في منطقة البحر الأحمر، التي تستدعي تحرّكاً دولياً نتيجة الاستهدافات المُتكرّرة من الحوثيين ضدّ السفن المحمّلة بالبضائع، كذلك، نشاط القراصنة الصوماليين الآخذ في الازدياد في الفترة الأخيرة، هذه التطورات كلّها ستحوّل المنطقة إلى ساحة للتنافس الدولي.

الأزمات الدبلوماسية بين دول المنطقة، ربّما تتحوّل حرباً إقليميةً، خاصّة بين مقديشو وأديس أبابا

تعيش منطقة القرن الأفريقي في مرحلةٍ من الاضطرابات الأمنية والسياسية بسبب أحداث داخلية، وأخرى خارجية لها ارتباط وثيق بما يجري حولها من تقلّبات أمنية واقتصادية، خاصّة تفاقم المُهدّدات الأمنية في البحر الأحمر، واستمرار الحرب السودانية الطاحنة، التي أكلت الأخضر واليابس، إلى جانب الحملة العسكرية التي تشنّها الحكومة الفيدرالية على حركة الشباب المرتبطة بـ"القاعدة"، مدّة عامين، من دون أن تحقّق جهود مقديشو نصراً كبيراً ينسف نفوذ الحركة، إلى جانب الصراعات الإثنية، التي باتت كالفطر في الكونفدرالية الإثيوبية، فما إن تهدأ جبهة، حتَّى تشتعل أخرى في إثيوبيا، ما يُهدّد أن تتحوّل تلك النزاعات بين القوميات الإثيوبية إلى حرب ضروس وطويلة الأمد، كما أنّ الأزمات الدبلوماسية بين دول المنطقة، ربّما تتحوّل حرباً إقليميةً، خاصّة بين مقديشو وأديس أبابا، بسبب الخلاف على مُذكّرة تفاهم مثيرة للجدل تحصل بموجبها إثيوبيا على منفذ بحري في البحر الأحمر، وذلك، إذا فشلت الأطراف الإقليمية في التوصّل إلى اتفاقيات أمنية وسياسية تبدّد المخاوف، وترسي استقراراً أمنياً واقتصادياً، في منطقة مُتخمة بالمجاعات والمآسي.