"إعلان أنقرة" بشأن الصومال وإثيوبيا... حلٌّ أم تأزيم؟

20 ديسمبر 2024

مصافحة آبي أحمد (يمين) وحسن شيخ محمود (يسار) بحضور أردوغان في أنقرة (11/12/2024الأناضول)

+ الخط -

بعد مارثون طويل من الوساطة الإقليمية والتركية لتخفيف حدّة التوترات بين الصومال وإثيوبيا، أخيراً أثمرت عملية أنقرة لرأب الصدع بين مقديشو وأديس أبابا، وإنهاء الأزمة الدبلوماسية من خلال الحوار لمنع انفراط عقد الخلافات وتحوّلها إلى صراع حقيقي بين جارتين، ظل إرث التوترات منذ السبعينيات من القرن الماضي يرسم معالم سياستهما الدبلوماسية والأمنية. وكانت الذاكرة المريرة من الحروب، سيما حرب 1977، تمثل العقبة الكأداء في انعدام الثقة وغياب روح التعايش والتعاون بين الدولتين. وما توصل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الحكومة الإثيوبية أبي أحمد في 12 من ديسيمبر/ كانون الثاني الجاري في أنقرة بوساطة الرئيس التركي أردوغان إلى ما سميت "المصالحة التاريخية" لا يعدو كونه مجرّد بقعة ضوء صغيرة في نفق الخلافات العميقة بين البلدين. لكن على الأقل أطلقت تباشير أمل ستكون بداية الطريق لحل الخلافات بروح من الصداقة والاحترام المتبادل بين القيادات الصومالية والإثيوبية، وفي غضون أربعة أشهر فقط.

قوبل إعلان أنقرة وقف التوتر بين مقديشو وإثيوبيا بموجة من الترحيب من دول خليجية وأخرى غربية، ومن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ومن الاتحاد الأفريقي أيضاً، ما يعني أن مجهود أنقرة كان مثيراً للاهتمام في نزع فتيل التوتر بين الدولتين، والتي لديها مصالح مشتركة مع كل من الصومال وإثيوبيا، فاستثمارات تركيا في إثيوبيا تفوق حجم الملياري دولار، بينما الدور التركي في مقديشو بارز أمنياً واقتصادياً ودبلوماسياً. ولهذا كللت سياسة تركيا لإخماد الحرائق من البيوت الخشبية، بوصفها توجهاً تركياً وإحدى أدوات تركيا في سياساتها الخارجية تجاه أفريقيا، بالنجاح في حماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في منطقة القرن الأفريقي، التي أضحت مغناطيساً جاذباً للتنافس الدولي والخليجي منذ العقدين الأخيرين.

حمل البيان الختامي لإعلان أنقرة نوعاً من الغموض في ما يتعلق بمذكرة التفاهم بين "أرض الصومال" وإثيوبيا، والتي لم يتطرّق إليها كل من الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الحكومة الإثيوبي أبي أحمد، تحدَّث كل منهما عما يهمّه في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس أردوغان، فإثيوبيا عززت موقفها من الوصول إلى البحر الأحمر لأغراض تجارية، وبالتعاون مع حكومة مقديشو خضوعاً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، بينما جدّد الرئيس الصومالي موقفه من أن إثيوبيا لا يمكن أن تصل إلى منفذ بحري من دون التنسيق والاتفاق مع حكومته، ما يعني أن مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال اعتبرت لاغية، وهذا ما يريح، على الأقل، الرئيس الجديد في هرجيسا، عبد الرحمن عرو، من الانخراط في صراع مرير لم يكن فاعلاً رئيساً فيه، ويتيح هامشاً من التحرّك والمناورة في كل من جيبوتي والصومال وإثيوبيا، وبدء نسج علاقات جديدة لـ"أرض الصومال"، لطي صفحة الأزمات العشائرية والإقليمية في إقليم أرض الصومال.

أمام الصومال وإثيوبيا فرص ثمينة لتبديد مخاوفهما وتحقيق تعاون أمني وتكامل اقتصادي شرط أن تتصف القيادات السياسية بين البلدين بالحكمة

ليست تركيا وحدها المستفيد الأكبر من وقف النزاع الدبلوماسي بين الجارتين، بل تقتضي مصالح دول خليجية عدة، لديها استثمارات ضخمة فيهما أن تهدأ العاصفة بين مقديشو وأديس أبابا، هذا بالإضافة إلى شعور دولي بأهمية فرض استقرار أمني في هذه المنطقة، إيماناً بأن مزيداً من الصراعات في القرن الأفريقي يهدّد مصالح الجميع، ولن تبقى القواعد العسكرية المنتشرة في المنطقة بمأمن من هذه الحرائق المشتعلة، التي تتداخل فيها مصالح، وتتشابك فيها خيوط اللعبة الدولية والإقلمية، إلى جانب شعور أديس أبابا بأن الانخراط في محرقة أمنية جديدة مع مقديشو لن تخرج منتصرة، بل ستزداد ضعفاً وتمزّقاً، في ظل ثورات مشتعلة في عمق دارها من الأمهرا والأورومو. وهذا لا يمكِّنها من الوصول إلى البحر الأحمر على نحو آمن، كما أن حكومة شيخ محمود تدرك جيداً أن الانجرار إلى حربٍ طاحنة مع إثيوبيا التي تفوقها عتاداً وجيشاً تجلب الخراب فقط إلى البيت الصومالي أكثر، وتفاقم ظاهرة اللجوء والنازحين واللاجئين ومعاناتهم إقليمياً ودولياً. ولهذا، أقل ما يمكن أن يقال إن إعلان أنقرة جنَّب المنطقة من أزمة إقليمية أمنية كان يدفع ثمنها الشعبان الصومالي والإثيوبي، ويكون رهان الحكومتين، الصومالية والإثيوبية، خاسراً.

ويبدو أن تحرّكات القاهرة أخيراً لمنع مقديشو من الذهاب إلى جولة مصالحة مع أديس أبابا لم تكن مقنعة، إذ لم تقدّم ضمانات كافية لها في حال استفحلت الأمور ودقت طبول الحرب، كما أن إمكانية أن يحارب جيش مهترئ، ولا يملك ترسانات عسكرية كافية لمجاراة الجيش الإثيوبي يعد رهاناً خاسراً بكل المقاييس العسكرية، فالصومال ليست في موقف يدفعها إلى خوض حرب عسكرية مع جارتها، فهي التي لم تقدر بعد على مواجهة حركة الشباب الإسلامي، فكيف يمكن أن تخوض حرباً بالوكالة لا تحمد عقباها ضد إثيوبيا التي تمارس سياسة كسب والوقت، باستثمار الطرف الصعب الحرج الذي تمر به الصومال، استعداداً لبدء مسار جديد لبعثة القوات الأفريقية في جنوب البلاد مطلع العام المقبل. هذا بالإضافة إلى ما ينتظرها من تحدّيات سياسية شائكة، خاصة في ما يتعلق بتنظيم "اقتراع مباشر" لأول مرة منذ 50 عاماً، فضلاً عن العقبات التي تواجهها مقديشو من بعض الولايات الفيدرالية المتحالفة مع إثيوبيا، خاصة بوتنلاند وجوبالاند المعارضتين للجهود الرامية إلى إجراء انتخابات مباشرة، وهو ما يُضعف موقف الصومال في التفاهمات القادمة بين البلدين.

جنّب إعلان أنقرة المنطقة أزمة إقليمية أمنية كان يدفع ثمنها الشعبان الصومالي والإثيوبي

كان الوسيط التركي حجر الزاوية في تحريك المياه الراكدة في ملفّ المفاوضات بين مقديشو وأديس أبابا، كما أن تدخل الرئيس التركي في ملف التوسّط، ساهم في إنجاح "عملية أنقرة" برمتها إلى حد كبير التي كادت أن تفشل في ثلاث جولات سابقة، مقارنة بما هو متوفر في أرض الواقع من فرضيات ومعطيات تشدّ الجانبين إلى مصير مجهول، فإثيوبيا تشعر بقلق عميق حيال استبعاد قواتها (أربعة ألف جندي) من عملية "أوصوم" ضمن البعثة العسكرية للاتحاد الأفريقي التي ستنشر قريباً في الصومال مطلع عام 2025، وهو ما يكلفها أثماناً باهظة في حماية أمن حدودها، إذا ثبتت فرضية استبعادها من تلك المهمّة العسكرية، فضلاً عن نشر قوات مصرية بالقرب من حدودها، ما يشعل فتيل الصراع ميدانياً بين القاهرة وأديس أبابا على أراضٍ صومالية، لكن مقديشو استبقت وقوع تلك الاحداث التي ظلت متّقدة في خيال كثيرين، وبدّدت تلك الأوهام في الوقت بدل الضائع.

أمام الصومال وإثيوبيا فرص ثمينة لتبديد مخاوفهما وتحقيق تعاون أمني وتكامل اقتصادي شرط أن تتصف القيادات السياسية بين البلدين بالحكمة والدراية في مآلات تداعيات توترات أمنية جديدة في المنطقة. والطريق شائك لتجنيب المنطقة توترات دبلوماسية وأمنية، فالتوصل إلى تفاهمات مثمرة يمكن أن تتبلور لاحقاً إلى اتفاق رسمي بحلول إبريل/ نيسان المقبل ليست بالأمر الهيّن، فعلى الطرفين الانخراط في تفاهمات جادة وحقيقية، فإذا كان سعي إثيوبيا للوصول إلى منفذ بحري لأغراض تجارية، وفي سقف زمني محدود، من دون عسكرة موانئ البحر الأحمر، يمكن ان يتحقّق ذلك المطلب باتفاق مع حكومة مقديشو، لكن فرضية إنشاء قاعدة عسكرية في هذه البقعة الاستراتيجية من البحر الأحمر لن يكون مقبولاً، بل ويهدّد مصالح دول الخليج، سيما السعودية وقطر، إلى جانب مصر وإريتريا والسودان وجيبوتي، وهو ما يضع القرن الأفريقي في صفيح ساخن، ويغيّر قواعد اللعبة ويفاقم موجة الاستقطابات الإقليمية والدولية من جديد.

إعلامي وباحث صومالي
إعلامي وباحث صومالي
الشافعي أبتدون
الشافعي أتبدون: إعلامي وباحث صومالي حاصل على ماجستير الصحافة من المدرسة العليا للصحافة والتواصل في باريس، صدر له كتاب "الفيدرالية في الصومال: أطماع التقسيم وتحديات الوحدة". لديه أبحاث ومقالات منشورة في مواقع ومراكز عربية وأجنبية.
الشافعي أبتدون