هل هي ثورة جديدة في سورية؟

23 اغسطس 2023
+ الخط -

مع مقاومة إغراء خفّة التعامل مع حدث الاحتجاجات المتصاعدة في أنحاء متفرقة من سورية باعتباره خبراً، وسطحية مقاربته في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي باعتباره مناسبة لإبداء التعجّب أو السخرية أو التعاطف أو الدعم، ستحاول هذه المقالة الدخول إلى عمق الدلالة، سعياً إلى قراءة تحليلية عميقة للواقع قدر استطاعتنا. مع ذلك، لا بدّ من التسليم بأنّ نجاح ذلك لا يرتبط فحسب بعوامل ذاتية وموضوعية غير واضحة المعالم، منها تعقّد المشهد وندرة المعلومات الصحيحة وتشابك المصالح المحلية والإقليمية والدولية، بل يرتبط أيضاً بمشهد اجتماعي داخلي متغيّر على الدوام، صنعته آلة الحرب التي شنّها النظام على المجتمع السوري بكل فئاته، بما فيها حاضنته أو ما اصطُلح على تسميتها كذلك من أطراف الصراع الداخلي السوري، وعلى الدولة السورية ذاتها ببناها التحتية من طرقٍ ومدارس ومشافٍ وجامعاتٍ ومساكن ومزارع ومصانع ... إلخ، وببناها الفوقية من مؤسّسات الحكم كالبرلمان والقضاء والحكومة والنقابات والاتحادات وغيرها.

بدا لوهلة أولى أنّ المجتمع السوري فقد حيويته، بل مات فعلاً بحسابات متشائمين عديدين. لهذا الرأي ما يسنده فعلاً، فالتمزّق المجتمعي الحاصل داخلياً بين عدّة مناطق سيطرة فعلية وتحت سلطات أمرٍ واقعٍ مختلفة أوجد تباعداً هائلاً بين السوريين، بدءاً من مناهج التعليم، مروراً بآليات الإنتاج الاقتصادي من زراعة وصناعة وتجارة، إلى تقطّع سبل التواصل والتنقل وتقسيم الثروات الوطنية بشكل مجحف وهدر كثير منها، وصولاً إلى الأنماط الإدارية السائدة في الحكم، والتي انعكست على جميع أوجه الحياة المادّية. هذا كلّه وغيره جعل حجج أصحاب هذا المذهب راجحة في الميزان. تضافُ إلى ذلك، بالطبع، حالة التعثّر والفشل الرهيبين في أداء النخب السورية، سياسية أو فكرية أو غيرها، وعدم قدرتها على تجاوز الأزمة واجتراحِ طريقٍ جديدٍ للخلاص. ولا يُنسى بطبيعة الحال تأزّم العلاقات الدولية اقتصادياً بعد جائحة كورونا، وسياسياً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتنافس المحموم بين قوى دولية عديدة لا يُستهان بها على إعادة إنتاج نظامٍ متعدّد الأقطاب، وبالتالي، اعتبار الحالة السورية واحدة من بين عشرات الجروح النازفة في العالم، والتي لا قِبَلَ للمجتمع الدولي بعلاجها بشكلٍ يبرأ فيه الجسد المريض نهائيًا، بل أفضل ما يمكن تقديمه مسكّناتٌ أثرها على الجائع كرائحة الطعام لا الطعام نفسه، فهي لا تُسمن ولا تغني من جوع.

يجدّد السوريون والسوريات روحهم في درعا والسويداء وريف دمشق وحمص واللاذقية وغيرها من المحافظات

الواقع أسوأ مما يمكن وصفه، وحرب النظام على السوريين أمعنت في تقطيع أوصال المجتمع، فبات الشتات السوري شبيهاً لشقيقه الفلسطيني مع اختلاف الأسباب والظروف، وأصبحت الدياسبورا السورية مثل مثيلتيها العراقية واللبنانية اللتيْن سبقتاها زمنياً، ومثل اليمنية التي عاصرتها والسودانية التي لحقتها. نحن أمام واقع واضح يؤكّد أنّه فضلاً عن المجتمعات السورية المحكي عنها في الداخل، ثمّة مجتمعاتٌ سورية كثيرة أخرى في تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق وأوروبا وكندا والولايات المتحدة... وكما يوضح القول الدارج من الكلام "عدّ وخربط" بما لا نهاية له من مأساة يبدو أنّه لا نهاية قريبة لها.

لكن كيف يمكن تفسير هذا الحراك المتفاوت بالأشكال، المتفرّق بالتوزّع الجغرافي، المختلف بالسقوف المرفوعة حسب المناطق المتعدّدة وحسب القائمين عليه فيها. وأخيراً وليس آخراً، حسب الوسائل المختلفة التي يظهر بها هنا وهناك، في هذا الوقت أو في ذاك؟ أليس في هذا ما يدفع إلى التفاؤل بعودة الحياة إلى هذا الجسد الميّت؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ قبلاً من تأكيد حقائق لا غنى عنها، أولها أنّ المجتمعات السورية في المغترب ما عادت قادرةً على رفع الحمل الهائل الملقى على عاتقها، فلم يعد بالإمكان للتحويلات المالية البسيطة أن تساعد أهل الداخل على البقاء والاستمرار، فغياب البنى التحتية، وغياب الإنتاج المحلي على كل الأصعدة، يجعلان قطاعات واسعة من الاقتصاد السوري خارج الخدمة، وهذا يُثقل كاهل المجموعات والأفراد، وهو حملٌ ناءت به كواهل المغتربين. ثاني هذه الحقائق أنّ الأفق بات مسدوداً، وأنّ الأمل شبه معدومٍ بالخلاص، فحتى تجربة إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية لم تسعف في إحياء الأمل ولو زيفاً أو فتح الأفق ولو كذباً، وباتت طرق الخلاص الفردية شبه معدومة، فالبحار تأكل من أبناء هذا الشعب أكثر ممن يستطيعون قطعها إلى أوروبا، ودول الجوار أغلقت حدودها، بل باتت تشجّع على إعادة من هم فيها من السوريين، وبعضها يعمدُ لأشدّ الطرق وحشية وعنصرية ولا حاجة للتسمية. وثالث هذه الحقائق أنّ الخوفَ من الموت أوصل إلى الموت فعلاً، وأنّ الصمتَ خوفاً من القمع أدّى إلى استشراء القمع وسفوره وخروجه عن كل لجام، وأنّ الوقوفَ على الحياد أظهر أنّه لا حياد في صراع الوجود هذا فعلاً.

لن يكرّر المحتجون بعض أخطاء الماضي، ولن يصعّدوا باللجوء إلى السلاح، بل سيجدون طريقةً ذكيّة لرصّ الصفوف

لكن كيف سينجح هذا الحراك، وما السبيل إلى ذلك إذا كانت البُنى المجتمعية السورية ممزّقة. وبالتالي، إذا كان ما عانت منه الثورة عام 2011 من غيابٍ للتنظيم وانعدامٍ للقدرة على إنتاج القيادة السياسية والميدانية للحراك، هو واقعٌ راهنٌ الآن، بل هو أكثر حدّة وفجاجة! وهل يعني ذلك أنّ الاحتجاج لن يستمرّ أو أنّه سيتوقف؟ وكيف له أن يتطوّر إلى حالة تنظيمية سياسية شاملة على مستوى سورية بأكملها حتى يكون معبراً للخلاص؟ لا يقين في أي إجاباتٍ تُطرح، لكن من حسن الفِطن إعمالُ التفكير بطرقٍ وأشكالٍ جديدة لدعمِ هذه الاحتجاجات لأنها ستتكاثر تلقائياً، رغم أنها ستبقى متفاوتة بالحدّة والسقوف، وستظلّ متفرّقة في النطاق الجغرافي. وهنا تأتي مسؤولية دعمها وتأييدها على الجميع. يجب أن يكون واضحاً لنا، من خلال التجربة على الأقل إن لم يكن من خلال الموقف الوطني والأخلاقي المسؤول، أنّ تسخيف المطالب التي قام الناس من أجلها في بعض المناطق، أو التشكيك بها، أو السخرية منها، لن يكون إلّا كمن يطلق النار على قدميه، وهو، بشكل أو بآخر، يقدّم خدمة أيما خدمة للنظام.

أسباب الحراك متعدّدة ومختلفة، لكنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. لم يعد باستطاعة السوريين والسوريات التحمّل. لن يكرّر المحتجون بعض أخطاء الماضي، ولن يصعّدوا باللجوء إلى السلاح، بل سيجدون طريقةً ذكيّة لرصّ الصفوف، ومن كان عدوَّ الأمس يجب أن يصبح حليفَ اليوم، ومن ظنّ أنّه انتصرَ باتَ يعرفُ الآن أكثر من غيره أنّه المهزوم الأول. ليس ثمّة ما يمنع من إعادة قراءة المشهد، بل هذا ما يحصل فعلاً، فمن وقف مع النظام في بداية الثورة بات على ثقةٍ أنّه حان دوره لزيارة المقصلة، ومن ارتهن لإرادة الخارج بات يدرك أنّ الثوب المُعار لا يستُر، ومن وقف على الحياد بات يعلم أنّه لا حياد بعد الآن، فالغول لا يشبَع وسيأكل أبناءه حتى فهل يطمع بالنجاة أبناء من وقفوا بعيداً عنه! اليوم وبعد عشر سنواتٍ على مجزرة الكيماوي في الغوطة، وبعد 12 سنة على اندلاع الثورة من درعا، يجدّد السوريون والسوريات روحهم في درعا والسويداء وريف دمشق وحمص واللاذقية وغيرها من المحافظات، ونحن على أعتاب ثورة جديدة فعلاً، فماذا نحن فاعلون لإنجاحها؟

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود