نحنُ وهُمْ... صورة الواقع المُتخيَّلة

11 اغسطس 2024

(كريم رسن)

+ الخط -

يَحَارُ المرءُ كثيراً خلال محاولاته لفهم سبب النظرة المسبقة، والتصنيف القَبْلي للمسلمين والعرب في أوروبا والغرب عموماً. ثمّة انطباعٌ يكادُ يكون راسخاً في عقلية الغربيين عن الشرق، وقد لعبت السينما والصحافة دوراً كبيراً في ترسيخ هذه الصورة عبر آخر عقود، لكنّ الأصل في هذا ليس سببه الرئيس الإعلام، بل العلاقة المُعقّدة بين الشرق والغرب، التي نشأت منذ مئات السنين. كان ظهور الإسلام عاملاً حاسماً في تغيير وجه الشرق، وقد بدأ الاحتكاك بالغرب مُبكّراً من خلال الفتوحات الإسلامية، التي كانت نتيجتها السيطرة على جزء كبير من الإمبراطورية الرومانية الشرقية في بلاد الشام وشمال أفريقيا. تطوّر الاحتكاك فيما بعد من خلال أدوات ثقافية مختلفة عبر الأندلس، وفي فترة متأخّرة عبر القسطنطينية، بعد فتحها على أيدي العثمانيين. سبق ذلك كلّه حركةُ الترجمة، وهضم التراث اليوناني، إضافةً إلى الفارسي والهندي بالطبع، وهذا ما أنشأ منظومةً فكريةً متكاملةً وقويّة، أمكن لاحقاً تسميتها "الحضارة العربية الإسلامية".

ارتفعت الجدران بين الشرق والغرب بفعل الاستشراق الذي كان جزءاً من الآلة الاستعمارية التي غزت العالم بعد النهضة الأوروبية

يقول إدوارد سعيد: "ولكنّ الاهتمام الأوروبي بالإسلام لم ينشأ، كما سبق لي أن ذكرت، من حُبّ الاستطلاع بل من الخوف من منافسٍ للمسيحية يتميّز بوحدته وصلابته وبقوته الجبارة ثقافياً وعسكرياً. وكان أوائل الباحثين الأوروبيين في الإسلام، على نحو ما بيّنه مؤرخون كثيرون، من أرباب المجادلات القروسطية الذين كتبوا ما كتبوه لدرء خطر جحافل المسلمين التي تهددهم وخطر الارتداد عن الدين المسيحي. وقد استمرت هذه التوليفة من الخوف والعداء، بصورة ما، حتى يومنا هذا، سواء في الاهتمام العلمي أو غير العلمي بالإسلام، وهو الذي يُنظرُ إليه على أنه دين ينتمي إلى منطقة معينة من مناطق العالم -هي الشرق- وهي التي غدت تمثل الثقل الموازن – خيالياً وجغرافياً وتاريخياً – لأوروبا أو ضد أوروبا والغرب" ("الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق"، ص 520). كانت ردّة فعل الكنيسة تجاه الإسلام، باعتبارها صاحبة الثقل الكبير في الغرب الأوروبي، خاصّة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في يد القبائل الجرمانية، وقيام الكنيسة بدور الدولة في حفظ المجتمعات المسيحية، أحد العوامل الحاسمة في تحديد النظرة للشرق عموماً. لقد سادت النظرة المشكّكة بالدين الجديد عند الكنيسة، فكان الموقف السائد يعتبر أنّ محمّداً (ص) ليس إلا نسخةً مزيفةً عن يسوع المسيح، وأنّ الإسلام ليس ديناً أصيلاً، بل محاكاة هزلية للدين الحقّ، أي المسيحية. هكذا بقي الإسلام خارج المنظومة الغربية، أي ليس فقط خارج الحدود الجغرافية، بل والفكرية أيضاً. استتبع هذا اعتبار الإسلام، ليس خطراً عسكرياً فقط، بل خطيئةً يجب محاربتها والانتقاص منها في كلّ محاكمة فكرية، فكانت تسمية الديانة "المحمّدية" أحد أوجه إنكار المصدر السماوي الإلهي للدين الإسلامي. يمكننا أن نرى ذلك العداء في أغلب الكتابات الأدبية والفكرية الأوروبية خلال العصور الأوروبية المظلمة. مثالاً على ذلك، يمكن سوق عمل دانتي (1321) الشهير؛ "الكوميديا الإلهية"، التي تمثّل بشكل أدبي شعري النظرة المسيحية في القرون الوسطى للحياة الآخرة. في هذا العمل الملحمي الشعري يسمّي دانتي الرسول محمد (ص) "ماوميتو"، ويضعه في الدائرة الثامنة من حلقات الجحيم التسع، أيّ الحلقة التاسعة من حلقات الشرّ العشر (!) هذا لا يدلّ إلا على قناعة راسخة بأنّ الكنيسة ما كانت لتعترف أبداً بالدين الإسلامي ديناً إلهياً، وبمحمد (ص) نبيّاً مرسلاً من الله جلّ جلاله، وهو ما أحدث الأثر الأكبر على الفكر الغربي تجاه الشرق عموماً، وتجاه المسلمين والعرب خصوصاً، فما زالت ظلال هذا التقييم القروسطي قابعةً في المخيّلة الغربية عن الشرق.

بدأت المركزية الأوروبية تتكسّر تحت مطارق جيل جديد من مفكري الأطراف أو العوالم النائية

رغم انفتاح العالم على بعضه خلال آخر عقدَين بشكل هائل، ورغم التقدّم الكبير في التبادل المعرفي عبر الصوت والصورة والكتابة، أي عبر الفنون والآداب والعلوم، ورغم تقارب البشر فيزيائياً واختلاطهم وتعارفهم المباشر من خلال الهجرات والرحلات وتشارك العمل والحياة، إثر التقدّم الواضح في وسائل التنقّل والتواصل، رغم ذلك كلّه، تبقى التصوّرات والانطباعات الراسخة من جيل إلى جيل أكثر حضوراً وثباتاً في أفكار البشر. هكذا يبدو الماضي أكثر حضوراً في الزمن الراهن من الحاضر ذاته، وتبدو الصورة أشدَّ رسوخاً من الأصل ذاته، وكأنّ كتابات سرجون بن منصور (يوحنّا الدمشقي)، التي حملت أوائل النعوت للإسلام بالهرطقة باعتباره ديناً مزيَّفاً، لا تزال حاضرة في أيامنا هذه من خلال جهد معرفي كبير، بدأ يتكثّف مع نهايات القرن الـ 18، وخصوصاً حملة نابليون بونابرت على مصر، وهو ما سُمّي لاحقاً الاستشراق، وهذا بالذات ما يشرحه المُفكّر العربي إدوارد سعيد في كتابه المذكور، الذي يحمل اسماً ذا دلالة كبيرة على مضمونه.
عالج إدوارد سعيد الاستشراق بشكل مُعمّق، غاص فيه وأعطى الأشياء معنىً آخرَ مختلفاً تماماً عن المفهوم السائد عن العلاقة بين الشرق والغرب. لا يقتصر الأمر على فهم رؤية سعيد، الذي أتى من هذا الشرق، حيث ولد وعاش ردحاً من العمر قبل التنقّل في المنافي، ثمّ ليفهم ذاك الغرب حيث درس وتعلّم وكتب وأبدع، بل إنّ قراءته توصل إلى جوهر مختلف كليّاً عما ألفه المرء قبل ذلك. ثمّة أفقٌ آخرُ ينقلنا إليه كتابه (الاستشراق)، يعيدنا إلى ضرورة ممارسة محاكماتٍ عقليةٍ بدَتْ ردحاً طويلاً لمن لم يقرأه وكأنها مسلّمات أو بديهيات رسّخها نهج المستشرقين الغربيين في العقل البشري. أبداً لا ينظر الغربيون لنا بِعَدِّنا، نحن الشرقيين، كائناتٍ موضوعيةً موجودةً خارج تفكيرهم. نحن الصورة المرسومة ذهنياً في عقولهم، والمنبثقة من تراكم توصيفات المستشرقين الأوروبيين والغربيين عموماً عبر عقود عديدة، منذ بدء الاستكشافات الجغرافية الكُبرى، وانتشار الاستعمار الأوروبي في بلادنا، حتّى اللحظة الراهنة، بل ربّما منذ كتابات يوحنّا الدمشقي (749) وصولاً إلى كتابات برنارد لويس. يستمدّ الموظف الإداري البسيط في ألمانيا مفاهيمه عن الشرق والشرقيين من المعين ذاته، الذي ينهل منه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، يرسم الأول صوراً تُرشد اللاجئين والمهاجرين إلى كيفيّة استخدام دورات المياه، ويعِظُنا الثاني لإيجاد حلول لخروج ديننا الإسلامي من "أزمته"، حسب تعبيره.

عالج إدوارد سعيد الاستشراق بشكل مُعمّق، وقدّم معنىً مختلفاً عن المفهوم السائد عن العلاقة بين الشرق والغرب

ارتفعت الجدران بين الشرق والغرب بفعل المستشرقين، وبفعل الاستشراق، الذي كان جزءاً من الآلة الاستعمارية الجبّارة التي غزت العالم بعد النهضة الأوروبية. كان لانتشار موجة الأفكار القومية منذ القرن الـ 19 دورٌ في تعزيز الفصل بين الأمم والشعوب، وأثّر ازدهار علوم الميكانيكا والبيولوجيا والأنثروبولوجيا في تلك الفترة بارتفاع منسوب العنصرية الأوروبية، فكان إحساس الأوروبيين بالتفوّق العرقي مرتبطاً بشكل وثيق بتقدّمهم في ساحات العلوم والاختراعات والاكتشافات الكبرى، وهذا بدوره وسّع الهوّة مع الشرق، الذي كان في قاع هوّة الانحطاط الحضاري. ورغم مضيّ تلك الحقب المظلمة من تاريخ البشر، إلا أنّ رواسبها لا تزال واضحةً في السلوك الدولي السياسي العام. هنا يحضرنا أن نضرب مثالاً على ذلك ابتداع مشكلة التطرّف والإرهاب، ووصم الإسلام والمسلمين بهما، فالغرب بحاجة إلى عدوّ يعرّف نفسه من خلاله وبالتضادّ معه، وبسقوط الاتحاد السوفييتي بدأ الترويج للعدو الإسلامي، فكانت جذور الفكرة موجودة بالفعل من خلال تراث الاستشراق الكبير الذي طالما وضع المسلمين ضمن قالب مُحدَّد، هو قالب العدوّ المُضمر، "الآخر" المختلف والمتخلّف، الذي لا قيمة له إلا باستعماره واستعباده. لكنّ المركزية الأوروبية بدأت تتكسّر شيئاً فشيئاً تحت مطارق جيل جديد من مفكري الأطراف أو العوالم النائية، وهو الذي بدأ كما يقول إدوارد سعيد في ثمانينيّات القرن العشرين مع الإيرلنديين والهنود والأرجنتينيين في دراسات "ما بعد الاستعمار"، و"ما بعد الحداثة"، وقد يأتي اليوم الذي تنتهي فيه النظرة لاعتبار الاستشراق "نظاماً خالداً"، ويصبح كما هو فعلاً "ظاهرةً ثقافيةً سياسيةً"، ويعود الواقع ليحلّ مكان صورته المُتخيّلة.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود