هل نحن أمام نقطة تحوّل في حرب غزّة؟
على امتداد أكثر من عشرة شهور، تمتّع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بحرية تكاد تكون مطلقة في الحرب التي يشنّها على غزّة. الضغوط الخارجية، السياسية والإعلامية والقانونية، وانهيار صورة إسرائيل على الساحة الدولية، لم تنجح في دفعه إلى تغيير موقفه الرافض إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار (دائم أو مؤقت) وتبادل الأسرى والمحتجزين. استند نتنياهو، في موقفه المصمّم على الحرب حتى تحقيق أهدافها (القضاء على قوة حركة حماس العسكرية والإدارية في غزّة، واستعادة المحتجزين) إلى عوامل، أهمّها اتكاؤه على غالبية برلمانية مريحة من 64 عضو كنيست، يمثلون تحالف اليمين واليمين المتطرّف، وقد زاده قوة انضمام زعيم حزب "المعسكر الرسمي" المعارض، بني غانتس، إليه في حكومة وحدة وطنية عشيّة انطلاق الحرب، استمرت حتى شهر يونيو/ حزيران الماضي، فضلا عن وجود رأي عام إسرائيلي داعم للحرب وأهدافها، ونخب حزبية وسياسية ظلت رغم خلافاتها الشخصية والتفصيلية تتبنى على مدى شهور عديدة مواقف منسجمة إلى حد كبير مع سياسات نتنياهو في غزّة، لا بل كان بعضها يزايد عليه بهذا الخصوص.
يبدو أن الأمور أخذت تتبدّل، وفترة السماح التي أعطاها الرأي العام ومراكز قوى سياسية واقتصادية إسرائيلية مختلفة لنتنياهو لإنهاء المهمّة في غزّة قد شارفت على نهايتها، بدليل الاستياء الكبير الذي برز بعد فشل الجيش في استعادة المحتجزين الستة (خمسة إسرائيليين وأميركي) أحياء في منطقة رفح، والإضراب الذي دعت إليه كبرى نقابات العمال الإسرائيلية (الهستدروت) بدعم من شركات صناعية عديدة، بما فيها شركات تكنولوجيا متنفّذة، وشلّ كل مظاهر الحياة تقريبا الاثنين الماضي، للضغط على نتنياهو للقبول بصفقةٍ لاستعادة المحتجزين أحياء.
تعيد تداعيات مقتل الأسرى الإسرائيليين الستة في نفق جنوبي قطاع غزّة إلى الأذهان ظروف انهيار الإجماع على دعم حرب فيتنام في الولايات المتحدة، إثر هجوم "تيت" الذي شنّه الفيتناميون الشماليون ضد القوات الأميركية وقوات فيتنام الجنوبية المتحالفة معها في يناير/ كانون الثاني 1968، والذي اعتبر حينها نقطة تحوّل في تاريخ حرب فيتنام والتورّط الأميركي فيها. قبل ذلك الهجوم، كان الإعلام والرأي العام الأميركيان يستقيان معلوماتهما عن الحرب من دوائر ما يسمّى "المثلث الذهبي" في النظام السياسي الأميركي، ويضمّ البيت الأبيض وزارتي الخارجية والدفاع. بعد الهجوم الشمالي والخسائر الفادحة التي لحقت بالقوات الأميركية في أثنائه، وبدء وصول الحقائب السوداء التي تحوي جثت الجنود إلى بلادهم، استيقظ الأميركيون على رواية مختلفة للحرب، أسفرت عن تحوّل في المزاج العام، تمثل في بدء انفضاض الرأي العام من حول الحكومة، وتبنّي الإعلام مواقف أكثر استقلالية غير مألوفة في أوقات الأزمة، واتّساع الشروخ في دوائر النخبة بشأن إمكانية ربح الحرب أو تحقيق أهدافها. وكان من نتائج ذلك عزوف الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، ليندون جونسون، عن الترشّح لولاية رئاسية جديدة، وتقديم نائبه مرشحّاً عوضاً عن ذلك، لينتهي الأمر بفوز مرشّح الحزب الجمهوري حينها ريتشارد نيكسون.
ما جرى في اليومين الماضيين يوحي أنه ربما بتنا أمام سيناريو مماثل، حيث بدأ الإجماع على دعم حرب غزّة وأهدافها ينهار، وقد تشكّل في إسرائيل عقب هجوم 7 أكتوبر (2023). تطالب المظاهرات الكبرى التي خرجت في مدن إسرائيلية مختلفة بوقف الحرب واستعادة الأسرى عبر اتفاق، وبروز مؤشّرات على نشوء معارضة داخل الائتلاف الحكومي (داخل حزب الليكود تحديدا بقيادة وزير الحرب يؤاف غالانت) وفي المؤسّستين، الأمنية والعسكرية، تعطي مؤشّرات بهذا الاتجاه.
هذا يعني أن أفق الحرب لم يعد مفتوحا كما كان عليه على امتداد الشهور الماضية، وأن نتنياهو الذي كان همّه الرئيس منذ "7 أكتوبر" استعادة شعبيته من خلال تحقيق إنجازٍ ما عبر الحرب، قد يجد نفسه قريباً يسير في الاتجاه المعاكس، إذا استمر في التعامل مع الضغوط الداخلية بطريقة تعامله نفسها مع الضغوط الخارجية، لأن الحسابات والتبعات هنا تختلف تماماً، حيث يغدو أمام خياريْن: الرضوخ لضغوط الرأي العام ومراكز القوى الإسرائيلية أو مواجهة التبعات التي قد تُنهي عهده الطويل في حكم إسرائيل.