هل نجحت الثورات المضادّة في إخماد الربيع العربي؟
مضى عقد على الثورات الشعبية التي دشّنتها انتفاضة الشعب التونسي على حكم الفرد، والتي شملت عددا من الجمهوريات العربية، منها مصر وسورية وليبيا واليمن. ويبدو للمشاهد عن بعد وكأن واقع هذه الدول لم يتبدّل، وأن ثورة الشعوب العربية لم تغير شيئا على أرض الواقع. بعد مرور عقد على انطلاق تلك الثورات، لا زالت مصر ترزح تحت حكم مؤسّسة عسكرية تتحكّم بمفاصل الدولة جميعا، السياسية والاقتصاد والبيروقراطية والتجارة، ولا زالت سورية وليبيا واليمن في صراعِ مسلحٍ استدعى دخول قوى عسكرية ومليشيات طائفية تدعمها دول إقليمية وقوى دولية. بعض من شارك في هذه الصراعات التي نجمت عن إصرار النخب الحاكمة على استخدام أشد الأسلحة العسكرية فتكا في مواجهة التحرّكات الشعبية المطالبة بإصلاحات حقيقية لوقف الفساد واستنزاف الثروات الوطنية لملء جيوب شريحة صغيرة من المنتفعين على حساب الشعوب التي تعاني من ضيق العيش وتراجع المنظومة التعليمة، وتدهور فرص العمل ومستوى الحياة المعيشية لشعوب الربيع العربي.
توصيف المشهد على هذا النحو تؤكّده الصور التي نراها يوميا على النشرات الإخبارية عبر الفضائيات التي تساهم في نقل الأوضاع العربية، وتساهم، بقصد أو من دونه، في تطوير وعي عربي مشترك لطبيعة الأنظمة التي تتحرّك على الجغرافيا العربية، وإظهار حقيقة القوى التي تساهم في تشكيل هذا الواقع الأليم. يشاهد العرب بوضوح قدرة الأنظمة العربية على توليد ثورات مضادّة للتنكّر للمطالب الشعبية المحقّة، لكنهم يرون أيضا جانبا بقي خفيا عنهم، أو لنقل بقي موضع شك عقودا طويلة، وهو أن الأنظمة التي حملت شعارات الوحدة والحرية والاستقلال وتحرير الشعوب والدفاع عن الحق الفلسطيني، واستخدمتها لتبرير الاستبداد والإنفاق الكبير على المؤسسة العسكرية على حساب الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات وتطوير الاقتصاد، تعتمد لبقائها على الدعم المالي والعسكري المباشر للدول الطامعة في المنطقة، وأنها مستعدّة للتفريط بمصالح الشعوب وسيادة الأوطان للبقاء في موقع السلطة والقرار. ثورات الربيع العربي أظهرت للعيان أن النخب السياسية الحاكمة في سورية ومصر وليبيا واليمن لا تمتلك حتى المرونة في الدخول في تفاوض وحوار مع أبناء الوطن، وأن عليها الاستمرار، من أجل الاحتفاظ بالدعم الخارجي، في قمع الشعوب وإسكات الأصوات المعترضة على السياسات التي تخدم مصالح قوى خارجية على حساب مصالح الشعوب العربية.
أظهرت الثورات العربية نقاط الضعف في النخب السياسية المعارضة والقيادات الشعبية
أظهرت ثورات الربيع العربي جانبا آخر لا يقل أهميةً عن مشهد التدخلات الخارجية والتعاون بين زعماء روسيا وفرنسا وأميركا، والذي لم يحدث بهذا التنسيق العالي في المنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى، عندما تعاونت هذه الدول لإعادة ترتيب الإرث العثماني في المشرق إثر انهيار الدولة العثمانية مع نهاية تلك الحرب، فقد أظهرت الثورات نقاط الضعف في النخب السياسية المعارضة والقيادات الشعبية. وتجلّى هذا الضعف في عدم إدراك أهمية التعاون والتضامن والوقوف في صف واحد ضد المستبد الغاشم، والتقليل من شأن التعاون الواسع والتكامل الوطني، والميل إلى التنازع على التفاصيل المتعلقة بالخصوصيات الحزبية والعقدية والطموحات الشخصية خلال اللحظات الحاسمة التي تتطلّب التكاتف ورص الصفوف أمام التحدّي المشترك والعدو المتربص. وعلى أهمية العنصر الخارجي للصراع المتعلق بتعاون قوى دولية وإقليمية لترتيب الخريطة السياسية داخل دول الربيع العربي، وفق أولوياتها ومصالحها الجيوسياسية، فإن العامل الحاسم في السعي إلى التحرّر من الاستبداد، داخلي ووطني، يتعلّق بالثقافة والتقاليد السياسية التي تتحكم بالوعي الشعبي، وبقدرة القيادات السياسية الإصلاحية على تحديد الأولويات والانضباط في سياق العمل على تحقيقها. يجب التركيز على هذا الجانب الداخلي الذاتي من الثقافة السياسية في المرحلة الصعبة المقبلة، لأنه العنصر الأساسي والمحوري في مواجهة المشاريع الخارجية والطائفية في المنطقة العربية.
الثورة باعتبارها عملا عفويا شعبيا لا يمكن تحقيق أهدافها في مرحلة واحدة، والتغيير الديمقراطي يتطلب مراحل متلاحقة
عودة إلى سؤال النجاح والفشل في الحكم على ثورات الربيع العربي، فإن التقييم الدقيق لما حصل أن هذه الثورات نجحت في التفكيك الكلي أو الجزئي لأنظمة الاستبداد، ولكنها لم تتمكّن بعد من تحقيق هدف تحرير المجتمعات العربية منها، لأسبابٍ لا تتعلق بنجاعة المستبد وقدرته على إدارة الخلافات المجتمعية بكفاءة وقدرة. ولكن بسبب خيارات النخب الحاكمة الاحتفاظ بالسلطة والتمسّك بمصدر شرعيتها الحقيقي، المتمثل بالقوى النافذة والطامعة، بدلا من الدخول في حوار وطني صادق مع الشعوب والقيادات الوطنية التي تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي. يمكننا القول، بعبارة أخرى، إن ثورات الربيع العربي نجحت في تفكيك منظومات الاستبداد، وكشفت تبعيتها الكاملة للمشاريع الخارجية والطائفية على حساب المشروع الوحيد الذي يمكن أن يخرج العرب من مأزقهم التاريخي، مشروع بناء دولة المواطنة والقانون الضرورية للتأسيس لمستقبل يليق بالإنسان العربي. نعم أثبتت التجربة السياسية خلال العقد الماضي أن الثورة باعتبارها عملا عفويا شعبيا لا يمكن تحقيق أهدافها في مرحلة واحدة، وأن التغيير الديمقراطي يتطلب مراحل متلاحقة. الثورة الفرنسية التي أنهت الحكم الملكي المطلق لم تتمكّن من بناء البديل الديمقراطي مباشرة، ولكنها أطلقت الروح التي ساهمت في تحويل القارّة الأوربية كاملة من حالة الاستبداد المطلق إلى التحرّر وبناء مجتمعات قادرة على مساءلة من هم في موقع السلطة والمساءلة، وإخضاعهم لحكم القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين.
الثورات نجحت في التفكيك الكلي أو الجزئي لأنظمة الاستبداد، ولم تتمكّن بعد من تحقيق هدف تحرير المجتمعات العربية منها
أنهت ثورات الربيع العربي المرحلة الأولى من الجهد الضروري للتحرّر من الاستبداد، ووضعت التدافع في المنطقة العربية في شكله الصحيح، بين شعوب مصرّة على تقرير مصيرها ونخب حاكمة تتحرّك وفق مشروع دولة ما بعد الاستعمار التي أريد لها أن تكون نسخةً استعماريةً مطوّرة تعتمد الاستعمار الداخلي للتحكّم بالمنطقة من خلال مؤسساتٍ عسكريةٍ تتعامل مع المواطنين بمنهجيات الاستعلاء والقسوة التي مارسها المستعمر قبل إخراجه من البلاد بتضحيات أبناء الوطن. ويتطلب هذا الاستقطاب الجديد مقاربةً تعتمد على تضامنيات شعبية واسعة، تتجاوز الحالة الحزبية والعقدية والمناطقية إلى عمل سياسي ومجتمعي، يحرّر روح الإصلاح الثقافي والتعاون والوطني في المجتمعات العربية. ويهدف إلى خدمة المواطن، من دون التفات إلى خصوصياته العقدية والحزبية والحركية والدينية، والى العمل على مشاريع توحيدية وطنية، تعطي أولوية لتحويل القيم التي يشترك بها كل أبناء المنطقة، قيم التعدّدية والعدل والمساواة والمشاركة السياسية، ومساءلة من هو في موضع المسؤولية واحترام التعدّد الديني والإثني، وتعمل على ترجمتها إلى مبادئ سياسية وعلاقات مجتمعية ومؤسسات مدنية ونظم سياسية تحقق الكرامة المتساوية لجميع أبناء الوطن.
آن الأوان للعمل على بناء تيارات وطنية تمثل التقاطعات والمشتركات التي تجمع أبناء الوطن، بمختلف شرائحه وخصوصياته السياسية والدينية والعقدية. هذه التيارات ستتشكل في اللحظة التي يدرك المختلفون في المذاهب والتنظيمات السياسية والتنوع الثقافي والديني أن عليهم الوقوف سويّا ضد ممارسات الاستبداد والهيمنة، ولو اختلفت رؤاهم السياسية، بدلا من الاستقواء بالمستبد الذي يستغل الجميع للتحكّم بالمشهد السياسي وتقسيم الوظائف والثروات الوطنية على أساس الولاء، لا العدل والكفاءة والجدارة التي يحتاجها المواطنون لتطوير البلاد وتحقيق العيش الحر الكريم.