هل مهّد ترامب غزو بوتين أوكرانيا؟
مع دخول الدبابات الروسية أراضي دولة أوكرانيا المستقلة، يطرأ سؤال مهم: من كسر الإجماع العالمي الذي جرى بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية؟ بعد نهاية تلك الحرب الطاحنة، يسأل العالم: ماذا حدث للاتفاق على عدم جواز الاستيلاء على أراض بواسطة الحرب؟ خُرق هذا البند عدة مرات، منها إسرائيل على أراض فلسطينية وعربية، والعراق على الكويت، وروسيا على جزيرة كريميا. ولكن العالم كان، لفظيا على الأقل، يرفض الاعتراف بضم أي أراضٍ محتلة، أو كما حدث للعراق إبّان احتلال الكويت، تجمع العالم في عام 1990 في حربٍ جرى فيها تحرير الدولة الخليجية المحتلة.
ولكن، في خضم معركة انتخابية حامية الوطيس عام 2019، قدّم الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، جائزة سياسية لصديقه الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هي الاعتراف بالضم أحادي الجانب لهضبة الجولان. كما تم تقديم هدية سياسية أخرى للمغرب، بالاعتراف بأن الصحراء الغربية جزء من مملكة المغرب، وذلك نتيجة تطبيع المغرب العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
الجولان، كما قطاع غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية)، منطقة تحتلها إسرائيل منذ يونيو/ حزيران 1967. وقد أصدر مجلس الأمن الدولي، في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، قراره رقم 242، والذي جاء في ديباجته أن كل أعضائه يؤكدون "عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب، ويؤكّد أيضاً أن جميع الدول الأعضاء بقبولها ميثاق الأمم المتحدة قد التزمت بالعمل وفقاً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة"، وتنص المادّة على أن "الأعضاء كافة ملتزمون بالعمل على حل النزاعات الدولية بطرق سلمية، بحيث لا يتم تعريض السلم والأمن والعدل للخطر".
المشرّع العالمي الذي وفّر حق "الفيتو" للدول الخمس لم يكن يفكّر أن هذه الدول ستستخدمه لخدمة مصالحها ولجم محاولة أي دولة استغلال ذلك الحق
وقد عرضت جامعة الدول العربية في قمة بيروت عام 2002 أيضاً على إسرائيل خطة سلامٍ، تنص على استعداد الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، إذا ما انسحبت من كل الأراضي العربية المحتلة. ومعروفٌ أنه حتى إصدار ترامب ذاك، لم تعترف أي دولة بقراري إسرائيل أحاديي الجانب، ضم القدس الشرقية عام 1967 والجولان عام 1980. وقد جاء اعتراف ترامب بالجولان جزءا من دولة إسرائيل خرقا للإجماع العالمي على رفض اعتداء على أراضي أي دولة جوار على الدول المستقلة، والمعترف بها من الأمم المتحدة. وذلك فيما لدول كثيرة ادعاءات بأحقية تاريخية أو دينية أو قبلية، لكن الإجماع الدولي كان ولا يزال واضحاً بعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
ومن تابع خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ساعات قبل بدء الاعتداء على دولة أوكرانيا المستقلة، سمع شرحا مطولا بشأن أحقّية روسيا في أوكرانيا على أسس تاريخية وغيرها، وهو الأمر الذي رفضه الإجماع العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالعالم كان ولا يزال على حق بعدم الاعتراف بنتائج حروب احتلالية، كان ذلك من إسرائيل أو العراق أو روسيا، فبدون مرجعية دولية وواضحة ومتفق عليها، سيجري التحكّم بالعالم بواسطة القوة العسكرية، وليس قوة الحق، فإذا كان هناك قبولٌ لما يقوم به المحتل القوي، فإن السؤال المطروح للنقاش من سيحمي دولة تايوان الصغيرة، أو دولا أفريقية عديدة صغيرة، أمام طغيان جيران أقوياء ذوي طموحات توسعية مهما كانت المبررات.
مقابل الاتفاق، والتزام الدول الكبرى على عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالحرب، وفّرت الأمم المتحدة لخمس دول عضوية دائمة في مجلس الأمن، وتوفرت لهم حق النقض (الفيتو). ولكن المشرّع العالمي الذي وفّر هذا الحق لتلك الدول الخمس لم يكن يفكّر أن هذه الدول ستستخدمه لخدمة مصالحها ولجم محاولة أي دولة استغلال ذلك الحق، كما حدث يوم الجمعة الماضي، لحماية روسيا نفسها من المحاسبة العالمية.
المجتمع الدولي مطالب بإعادة تأكيد المبادئ التي أقيمت عليها الأمم المتحدة، من حيث عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالعنف
قد يناقش بعضهم أن العالم، بعد الانتهاء من الحرب الباردة، أصبحت تديره دولة عظمى، بدلا من قطبين (أميركا وروسيا) عندما كانتا توفّران نوعا ما من التوازن وعدم الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك. ولكن أوروبا بالذات التي عانت، وخسرت الملايين من أبنائها وأملاكها، تعرف يقيناً أن فتح الباب وكسر الإجماع العالمي ستكون له آثار سلبية على المدى البعيد.
رفض الرئيس ترامب، وبكل وقاحة وعنجهية، إرادة العالم، واعترف بضم هضبة الجولان السورية غير القانوني. وعلى الرغم من أنه لم يبق في الحكم، إلا أن السابقة التي أحدثها وفرت الحجّة لقيام الغير بخرق مبادئ القانون الدولي. ومهما كان من يقطن في البيت الأبيض الأميركي، فإن المجتمع الدولي مطالب بإعادة تأكيد المبادئ التي أقيمت عليها الأمم المتحدة، من حيث عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالعنف. وينطبق هذا المبدأ على الجولان وعلى القدس وعلى كل فلسطين، كما ينطبق الآن على قوى الاحتلال الروسي لدولة أوكرانيا ذات السيادة الوطنية.
يحتاج العالم إعادة تأكيد مبدأ احترام أراضي الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وإذا كانت إحدى تلك الدول عضوا دائما في مجلس الأمن، فإنه لا يجوز لها أن تدعم الاحتلال والضم، ولا يجوز أن تقوم بغزو عسكري غير مبرّر وبدون أي استفزاز.