هل من ثورةٍ تنقذ تونس؟
ليس الموضوع أن رئيس تونس، قيس سعيّد، حلّ البرلمان الذي جمّده الصيف الماضي، ولا أنه في هذا يلحس كلاما كان قد قاله إن الدستور لا تجيز له هذه الفعلة، ولا أنه تذرّع بمادةٍ في الدستور كان قد ألغاها، لا تأتي على هذا الشأن أصلا. ليس الموضوع في تونس هنا أبدا، ففي الأصل، من الحماقة (مع الاعتذار) مطالبة قيس سعيّد باحترام الدستور، بل على كل من صدّق أن هذا الرجل أستاذٌ في القانون الدستوري أن يعتذر علنا للناس. ولمّا حدّث صحافيين أميركيين إنه درّس في الجامعة الدستور الأميركي، ثم قال لأردنيين صادفهم في معرضٍ عام إنه درّس دستور بلدهم، فإنما كان يثرثر بكلامٍ كيفما اتفق، على جاري عادته. .. إنما الموضوع في تونس، شديد الإلحاح، إنقاذ البلد من هذا الرئيس المتفرّغ للمنازعات في تأويلاتٍ دستوريةٍ لا تتوقف مع خصومٍ له بلا عدد، فيما البلاد نفسها تغالب وضعا اجتماعيا صعبا، وأكثر التوانسة صاروا لا يقوون على الغلاء المتصاعد، وقد تراجعت قدراتهم الشرائية كثيرا، وشحّت سلع أساسية (الزيت والبيض .. مثلا)، وقلّت الوظائف وفرص العمل، وزادت البطالة، ورُفعت الضرائب (بموجب قانون الميزانية المعلن أخيرا)، وانسدّت الآفاق أمام الشباب، مع تفاقم أزمةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ ظاهرة في وسع المختصين أن يشرحوا فيها.
لم يعد تهويلا ولا تحشيدا تعبويا ولا كلاما تحريضيا من معارضين مغامرين القول، الذائع إلى حدٍّ ما، إن اشتعال "ثورة جياع" في تونس ليس مُستبعدا، ولا يحتاج سوى إلى قادحٍ غير منظور. ولأن ليس من مهمّة الصحافي أن يكون داعية سياسيا، بل لا يجوز له هذا، فوظيفته الإعلام والتعليق، على أن يكون صاحب رأي وموقف، فإن صاحب هذه الكلمات لا يعطي لنفسه الحقّ في دعوة التونسيين إلى ثورةٍ على قيس سعيّد، ليس فقط لأن أهل مكّة أدرى بشعابها، وإنما أيضا لأن هذا غير لائقٍ ولا جائز، وغير أخلاقي أيضا. وإنما هو الحقّ في أن يتبنّى رأيا عن حاجة تونس إلى ثورةٍ تنقذها من مهاوي وقيعانٍ يأخذ هذا الرجل البلد إليها، فقد أصبح الخطر يتعلق بتونس، دولةً ونظاما عاما وتعاقدا اجتماعيا وسياسيا. وتنهض وجهة النظر هذه على ما أكّدته شهور قيس سعيّد في قصر قرطاج، قبيل انقلاب 25 جويلية (يوليو/ تموز) الماضي وبعده، استحالة أن تُنهي رئاستَه قوىً سياسيةٌ متكتلةٌ تسلّح نفسها بموجباتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ، وقبلها وبعدها، بموجباتٍ سياسيةٍ تفرضها الضرورة الماثلة، وكذا التهديد الذي صار يلحق بالدولة ومؤسّساتها، بعد أن انقطع سعيّد للعبث بهما، فلا يسجّل له أي "إنجاز" سواه.
أمّا قول من يقولون إن أقساطا من مسؤوليةٍ كبرى على الفاعلين السياسيين في تونس في العشرية الفائتة بشأن التدهور العام الحادث في البلاد، فهذا بديهيٌّ ولا سجال فيه، غير أن ثمّة خطورة فيه إذا سيق ليُعفي قيس سعيّد من المسؤولية عن الكارثة الراهنة. وأيا كان الحال، نواب البرلمان (المجمّد المنحلّ زورا) منتخَبون من الشعب، كما الرئيس الذي نسّب لنفسه صلاحياتٍ لا يجيزها منطقٌ ولا عقل (ناهيك عن دستور تونسي أو غير تونسي). والافتراض الصحيح عن بؤسٍ تبدّى في غير موضوع في أداء الأحزاب والقوى التي تشكّلت منها حكومات ما بعد الثورة لا يجوز أن يكون مبرّرا يُمنح لقيس سعيّد في الانتصار له، وإسناد قراراته المدمّرة. وهنا، يحسُن إشهار أكثر من نقطة نظامٍ على دعم قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الرئيس بعد "25 جويلية"، ثم التلعثم في معارضته، ثم التورّط معه في لعبة شدّ حبالٍ مفتعلة، ثم تأييده في قصة حلّ البرلمان أخيرا. وفي الأثناء، اكتفاء الاتحاد بمزاولة الدعوات إلى إضراباتٍ في غير قطاع، وفي مصانع ومشاريع عديدة، من دون تحسّس أكلافٍ اجتماعيةٍ منظورةٍ لهذا، ومن دون إبداع صيغ احتجاجٍ أخرى.
مؤدّى القول ومنتهاه أن قوىً مستحكمةً في تونس يستأنس بها قيس سعيّد في تماديه في التجرؤ على القانون والدستور، وفي تأويلاته لهما بحسب ما يتأتّى على باله. ومعلومٌ أن التونسيين لم يعودوا يطيقون الحال المتأزّم بين ظهرانيهم، معيشيا وسياسيا. ومعلومٌ أن ضعف القوى والأحزاب في البلاد وقلة حيلتها في التكتل الفاعل والنشط والمبادر يصبّان في طواحين قيس سعيّد .. ولأن المشهد التونسي هو هذا، في حوافّه ومقادير من تفاصيله، فإن حاجةً يستشعرُها واحدُنا، من بُعدٍ بعيد، إلى ثورة شعبيةٍ هناك، قد يكون فيها بعضُ خلاص، وبعضُ أفق.