هل فعلاً نعيش الزمن الروسي؟
اجتذب النموذج البوتيني كل المستبدّين شرقاً وغرباً إلى درجةٍ جرى إطلاق مصطلح على هذه الظاهرة عُرفت بـ "Putin Cult"، إذ يعشق بعض المستبدّين نموذج الرجل الأبيض القوي الذي بات فلاديمير بوتين يجسّده. ومع بدء مغامرة غزو أوكرانيا، وصل حماس الـ"بوتينيين"، سيما العرب منهم، إلى اعتبار أن ما يحصل لحظة تاريخية، تنقلب بها موازين القوى لصالح المد الروسي. ولكن المعطيات لا تشير إلى أننا نعيش زمناً روسياً أو بوتينياً، بل قد يكون ما نشهده هو "عالم ما بعد الحرب الباردة"، حيث تتعدّد الأقطاب والقدرات، وتأتي في الطليعة الولايات المتحدة، على الرغم من انحسار نفوذها بشكل جزئي (في الشرق الأوسط على سبيل المثال)، وتأتي الصين في المرتبة الثانية. أما روسيا فعلى عكس ما يحاول إثباته بوتين، من خلال مغامراته وجديدها أخيرا في أوكرانيا، فإنه لم يعانق التاريخ بعد.
ففي عالم العلاقات الدولية، تتداول الدول والإمبراطوريات الهيمنة والسيطرة وفق عوامل عدة، كالموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به الدولة الطامحة، وحجم إمكاناتها العسكرية والصناعية واستقرار أوضاعها الداخلية، وهذا ما تفتقر إليه روسيا بوتين حالياً. كما أن الاحتفاظ بدور الهيمنة "hegemony"، أو ديمومتها، أمر شبه مستحيل، إذ تستنزف التكاليف الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية التي تتكبدها الدولة المهيمنة الاقتصاد، وتحول دون قدرتها على مجاراة طموح إمبريالي إلى وقت طويل. وهذا ما لمسته الولايات المتحدة إلى حد بعيد، وقد تجلّى ذلك بالانسحاب الأميركي العشوائي من أفغانستان، والانكباب على التركيز على بحر الصين الجنوبي، وما يحمله من تحدّياتٍ بالنسبة لواشنطن.
عمل بوتين باستمرار على محاولة شرخ الصف الأوروبي، من خلال التأثير بالرأي العام وعمليات القرصنة السيبرانية
كما أن روسيا، في الحسابات الأميركية، ليست منافساً، بل هي دولة تمتلك قدرات عسكرية، وتحاول استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي في نظام دولي، لا فرصة لديها في الهيمنة عليه. أما القلق الأميركي الحقيقي فهو من الصين التي، خلافاً لروسيا، يعتمد نفوذها المتزايد على التجارة والاستثمار والمساعدات الاقتصادية، ما يجعلها تحديًا كبيرا على المدى الطويل بالنسبة لواشنطن.
بحسب معهد "راند"، المعروف بتأثيره الواسع على البيت الأبيض، يضمن التفوّق العسكري للولايات المتحدة احتواء روسيا، لكنه لا يضمن احتواء الصين. ويشير إلى حتمية هيمنة بكين العسكرية في شرق آسيا مع مرور الوقت، ما يستلزم التزاماتٍ أكبر من الولايات المتحدة تجاه حلفائها.
وفق استراتيجية الحرب الرمادية التي اتبعها عشرين عاماً، عمل بوتين باستمرار على محاولة شرخ الصف الأوروبي، من خلال التأثير بالرأي العام وعمليات القرصنة السيبرانية، وضخ المليارات للتأثير في أوساط النخب السياسية الأوروبية وغسل الأموال، إلا أن الأمور سارت بعكس ما يشتهيه، والدليل المغامرة في أوكرانيا التي أيقظت الأوروبيين ووحّدتهم، وبيّنت إخفاق بعض الدول الأوروبية التي راهنت على احتواء روسيا من خلال التعاون الاقتصادي، فعادت هذه الدول إلى الحضن الأميركي، لحمايتها من الدب الروسي.
بحسب معهد "راند"، يضمن التفوّق العسكري للولايات المتحدة احتواء روسيا، لكنه لا يضمن احتواء الصين
فضلا عن أن النموذج الروسي ليس جاذباً، ويصعب تسويقه عالمياً، وذلك بسبب الطبيعة التسلطية التي تحكمه وتقلل فرص تصحيح الأخطاء فيه، وذلك، على نقيض الأنظمة الديمقراطية، التي، وإن امتلكنا مآخذ كثيرة عليها، لكنها، تؤمن فرصا لمعالجة الخلل أو تقليل أضراره، سواء عبر الانتخابات أو الصحافة أو المجتمع المدني، وغيرها من أدوات التغيير، والتي لا تتوفر، في روسيا البوتينية.
ما نشهده اليوم ليس زمناً روسياً بالتأكيد، وربما ليس أميركيا أيضاً، ولكن في ظل ثورة الاتصالات والتقدّم التكنولوجي والتداخل الاقتصادي بين دول العالم، غدت التكهنات بالآتي أكثر صعوبة، لكن المؤكد أن الدول المحصّنة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أكثر قدرة على الصمود، والتأقلم مع التغيرات. أما الدول التي تقبع في أدنى سلم التنمية والتطوير، فمصيرها يبقى مرتبطاً بصراعات الكبار ومنطقتنا خير دليل.