السباق إلى القطب الشمالي... صراعات نفوذ وثروات مدفونة
لم تكن تداعيات انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) مقتصرة على زيادة قوة الردع ضد روسيا في المجال الأوروبي، وإنما كانت لها تداعيات جيوسياسية على ساحة جديدة من صراع القوى العظمى، وتنافسها المتزايد في بقعة جغرافية، تلقى اهتماما متسارعا من المتنافسين في أقاصي الأرض، وتحديدا القطب الشمالي وما حوله.
تملك ثماني دول إطلالات بحرية وبرّية على محيط القطب الشمالي، وهي عماد ما يسمّى “مجلس القطب الشمالي". ومع انضمام السويد وفنلندا أخيرا إلى "الناتو"، تكون بذلك للتحالف العسكري الغربي الكتلة الغالبة في المجلس الذي يضم، إضافة للدولتين المذكورتين، الولايات المتحدة والدنمارك وآيسلندا وكندا والنرويج وأخيرا روسيا، إضافة إلى أن هناك أعضاء مراقبين، بينهم الصين والهند وألمانيا، يتطلعون إلى صناعة نفوذ في القطب الشمالي. ومنذ الحرب الأوكرانية، تشهد المنطقة حالة من الأمننة المتزايدة والوجود العسكري المتصاعد لمختلف الدول التي يتألف منها المجلس، ولكل من هذه الدول مصالحها في هذه المنطقة، ويمكن تلخيص مصادر اهتمامها بتلك المنطقة البعيدة من العالم في دافعين، اقتصادي واستراتيجي أمني.
ثروات تحت الجليد
اقتصاديا، مع استمرار ظاهرة التغيّر المناخي والاحتباس الحراري العالمي، تتكثّف عمليات ذوبان الجليد في أقصى الشمال واختفاء الغطاء الجليدي. وبحسب عمليات الرصد عبر الأقمار الصناعية لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، فإن مستويات الجليد تتراجع بنسبة 13% كل عشر سنوات، ومن المحتمل أن يكون القطب الشمالي خاليًا من الجليد بحلول عام 2050، وفي تقديرات أخرى، قد يختفي بحلول 2070. ومع استمرار عمليات ذوبان الجليد، تتكشف أراض تضم مليارات الدولارات من الثروات والمعادن والوقود الأحفوري، تسعى القوى العظمى إلى أن تكون لها حصّة الأسد منها.
كما يُعتقد على نطاق واسع أن القطب الشمالي البالغة مساحته 21 مليون كيلومتر مربع مليء بالثروات التي تشمل المعادن والفلزات والوقود الأحفوري، إذ تفيد أبحاث وتقديرات بأن القطب يحتوي على 22% من احتياطات الغاز والنفط غير المكتشفة بعد. وبحسب معهد دراسات القطب الشمالي، يمكن أن تدرّ كمية الثروات الهائلة أرباحا بالمليارات، لو جرى الأخذ بالاعتبار فقط المعادن النفيسة، فقد قدّرت الكمية الأكثر ربحاً، هي من استخراج المعادن الأرضية النادرة (مثل النيوديميوم للمكثفات والمحرّكات الكهربائية والتيربيوم للمغناطيس والليزر)، والتي تقدّر قيمتها بنحو تريليون دولار على الأقل، إضافة إلى تركيزات كبيرة من المعادن المهمة للإنتاج، مثل الفوسفات والبوكسيت وخام الحديد والنيكل والبلاديوم والفاناديوم. وتفيد تقديرات غربية بأن "القيمة الإجمالية للموارد المعدنية في الأراضي القطبية شمال روسيا تتجاوز 22.4 تريليون دولار أميركي".
تفيد أبحاث وتقديرات بأن القطب يحتوي على 22% من احتياطات الغاز والنفط غير المكتشفة بعد
وليست المعادن والنفط والغاز مصادر الثروة المحتملة الوحيدة في أقصى شمال الأرض، بل إنّ الممرّات المائية التي بدأت تتكشّف إثر ذوبان الجليد تشكل طريقاً واعداً للتجارة الدولية، وهنا يبرز اهتمام روسيا المتصاعد بما يسمّى "ممرّ الشمال"، والذي قد يقصّر طرق التجارة الدولية ويجنّب السفن المبحرة عبر المحيطات عبور قناة السويس، وهو الأمر الذي توليه أيضا الصين اهتماماً كبيراً ضمن مشروعها الضخم مبادرة الحزام والطريق، وخصّصت مبادرة خاصة ضمن هذا المشروع الاستراتيجي، سمّته مشروع "طريق الحرير القطبي".
وما يزيد من عجلة السباق نحو قنص هذه الثروات الهائلة السيولة القانونية، والتي تُعطي البلدان التي تحيط بالمحيط المتجمّد الشمالي حقوقاً تمتد إلى ما هو أبعد من سواحلها، بموجب القانون الدولي. وبحسب تقدير لوكالة بلومبيرغ، يمكّن القانون الدولي بلدان المحيط القاري المتجمّد من السفر بحرية عبر المياه الدولية، إضافة إلى دراسة واكتشاف ما تخفيه مياه المحيط من ثروات هائلة، وهنا يحاولّ كل طرف أن يثبّت حدوده وضمان حصته من الثروات المحتملة من خلال البعثات الاستكشافية والوجود العسكري، وادّعاء كلّ بلد أنّ له حقّ الوصاية على المياه الدولية القريبة من مناطقه، وهو أمر أثار عدّة مطالبات في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، كانت روسيا أوّل من طالب بالاعتراف بحقها بتوسيع منطقة صلاحيتها داخل المحيط المتجمّد، وتجري الولايات المتحدة دوريات مستمرّة بمساعدة كاسحات الجليد التي تملكها لرسم خرائط جديدة تحدّد نفوذها. وانضمت الدنمارك النرويج وكندا لقائمة المطالبين بحقوق سيادية في المياه الدولية.
تنافس أمني ومصالح جيواستراتيجية
لكن الاقتصاد ليس العامل المحرّك الوحيد للتنافس الدولي في القطب الشمالي، إذ هناك مصالح جيواستراتيجية للدول المتنافسة تسعى من خلالها إلى الحفاظ على نفوذها وتوسعته على حساب الطرف الآخر، والأهم هو الحفاظ على الأمن القومي الذي أصبح هاجس الدول الأوروبية المجاورة لروسيا، خصوصا بعد الحرب في أوكرانيا؛ فبالنسبة لروسيا، لا يشكل القطب الشمالي أهمية اقتصادية فقط، بل أولوية للأمن القومي والحفاظ على كيان روسيا نفسها، بما أن أكثر من 50% من أراضي السواحل ضمن القطب الشمالي روسية بالأساس. وعقب غزوها أوكرانيا، باتت روسيا في اعتمادية أكبر على مخزون أسلحتها النووية لغايات الردع، وربما الاستخدام المحدود للسلاح النووي التكتيكي، في حال تعثّرها وفشل غزوها العسكري أوكرانيا، ويوجد جزء معتبر من ترسانة الردع النووي لموسكو في شبه جزيرة كولا في القطب الشمالي، إذ لدى روسيا غوّاصات نووية تجوب البحار هناك كجزء من الردع النووي الاستراتيجي الذي تمارسه حول حدودها، إضافة إلى منظومات دفاع جوي وقواعد عسكرية. وقد أعادت روسيا بناء القواعد السوفييتية السابقة المهجورة وإنشاء موانئ وجزر عديدة مخصّصة لغايات عسكرية من الرصد والتجسّس والدفاع.
كما تشير التقديرات الروسية إلى أنه بعد انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو، سيزيد الوجود العسكري للتحالف الغربي على الحدود الروسية الأوروبية من 50 ألف جندي إلى 200 ألف، بعد توسعة الحدود المشتركة بين الحلف وروسيا إلى أكثر من 1300 كيلومتر. وهو ما يستدعي حالة من العسكرة والتحدّي الأمني، ما يرفع من أهمية الوجود العسكري في القطب الشمالي. وكانت روسيا قد وضعت استراتيجية للقطب الشمالي تسعى إلى التحوّل من خلالها إلى قوة محورية في القطب الشمالي مع حلول عام 2035، وذلك يتضمّن تكثيف الوجود العسكري المدعوم بقوات أرضية وأسلحة استراتيجية وتحسين البنية التحتية وتوسيع الفرص التجارية. وترى موسكو أنه مع تعزيز الردع الاستراتيجي في القطب الشمالي، فإنّ ذلك يضمن عدم تمدّد "الناتو" شرقا أكثر مما هو عليه حاليا. وهناك إجماع سياسي داخل روسيا على خطورة تمدّد "الناتو"، وهو ما تنظر إليه موسكو بأنه أكثر الخطوط الحمراء حساسية، ونقطة أساسية في تبريرها غزو أوكرانيا، لكي لا تتحوّل إلى جيب متقدّم لحلف الناتو على حدود روسيا.
يحاول كلّ طرف أن يثبّت حدوده وضمان حصته من الثروات المحتملة من خلال البعثات الاستكشافية والوجود العسكري
ولا يقلّ اهتمام بكين عن اهتمام جارتها موسكو، فنفوذ الصين المتزايد في العالم الناجم عن قوتها الاقتصادية الهائلة، ومحاولات واشنطن المستمرّة احتواء هذا النفوذ ومنعها من تحقيق الهيمنة على الفضاء الآسيوي، دفعت بكين إلى التعبير بوضوح عن دورها ورؤيتها للقطب الشمالي، فقد أعلنت عام 2018 أنها "القوة القريبة من القطب الشمالي" ووضعت القطب الشمالي ضمن أجندة مشروعها الضخم مبادرة الحزام والطريق. وتدرك بكين جيداً أنّ الحرب الأوكرانية قد وفّرت لها فرصة نادرة لتوسيع نفوذها في أقصى شمال الأرض، فالاعتمادية الروسية على بكين تتزايد بعد المقاطعة والعقوبات الغربية المفروضة عليها، إثر الحرب على أوكرانيا. وتحوّلت بكين إلى المستورد الأكبر للنفط والغاز الروسيين، كما تعتمد موسكو على بكين في الالتفاف على العقوبات الغربية، والحصول على التكنولوجيا اللازمة لإدامة آلتها العسكرية، في تحوّل جوهري لسياسة موسكو تجاه طموحات بكّين في القطب الشمالي، إذ رفضت عام 2013 ضم الصين عضوا مراقبا لمجلس القطب الشمالي، ولم تكن موسكو مرتاحة تماما لنفوذ الصين شمالا، نظرا إلى التنافس الاستراتيجي بين البلدين، لكن الحرب الأوكرانية قلبت الموازين. تسعى بكين من خلال هذه الاعتمادية إلى ترسيخ نفسها قوة دولية ذات نفوذ في القطب الشمالي، كما تسعى الصين إلى حجز مكان لها في الممرّات التجارية المتوقعة إثر ذوبان الجليد، لتحدي السيطرة والنفوذ الأميركيين على الممرات التجارية الاستراتيجية في مضيقي جبل طارق وملقا.
عسكرة القطب الشمالي
نظراً إلى ما تتمتع به روسيا من إطلالة شاسعة على المحيط المتجمّد، فإنّ وجودها العسكري لا تخطئه العين هناك، وكانت من أكثر الدول حماسا لعسكرة المنطقة من جرّاء الأهمية التي أولاها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لاستراتيجية موسكو الخاصة بالقطب الشمالي، إضافة إلى ما جرت الإشارة إليه من تعزيز الوجود العسكري، والذي تصفه موسكو بالدفاعي، فيما ينظر إليه "الناتو" على أنه هجومي الطابع. جدّدت موسكو المطارات والقواعد العسكرية من الحقبة السوفييتية لزيادة عتاد أسطولها الشمالي القوي الذي يسيّر الغواصات النووية وحماية المخزون النووي الاستراتيجي لروسيا، إضافة إلى تحسين قدرات الرصد الجوي من خلال رادارات متطوّرة ومتقدّمة. وبحسب تقدير لمركز كارنيغي، "الأنظمة الروسية الموجودة في شرق القطب الشمالي عملت على إنشاء "قبة وقائية"، ما يؤدي إلى تأمين الساحل الروسي الشاسع في القطب الشمالي وتحسين قدرة موسكو الشاملة على اكتشاف وتتبع السفن والطائرات". كما يذكر المركز، أنّ موسكو أعادت فتح 50 موقعًا عسكريًا مغلقًا سابقًا من الحقبة السوفييتية. ويشمل ذلك تجديد 13 قاعدة جوية، و10 محطات رادار، و20 نقطة حدودية، و10 محطات إنقاذ طارئة متكاملة. ووحدات القوات الخاصة الروسية هي أيضًا جزء من لواء القطب الشمالي، وقد انتشرت في المنطقة لإجراء التدريبات... واختبرت روسيا قدرات عسكرية جديدة في القطب الشمالي، مثل صواريخ كروز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والطائرات بدون طيار.
بالنسبة لحلف الناتو، تمضي عسكرة القطب الشمالي على قدم وساق بوجود سبع دول لها في مجلس القطب الشمالي، ونشرت وزارة الدفاع الأميركية استراتيجيتها الخاصة بالقطب الشمالي عام 2019، والتي ركّزت على "الحد من قدرة الصين وروسيا على الاستفادة من المنطقة كممر للمنافسة"، واحتجّت الولايات المتحدة على مشروع الممر القطبي الخاص بالصين، وزعمت أن آثاراً سلبية ستكون له على المناخ، وهو أمر نفته بكين، ووصفت الأمر بأنه ضمن الاستراتيجية الأميركية لتحجيمها. ويعكس تعيين الولايات المتحدة سفيرا للقطب الشمالي اهتمامها المتزايد بالملف، وهي تسعى، مع حلفائها في "الناتو" إلى تأمين مصالحهم هناك، خصوصاً وأنه ليس بعيداً عن القطب الشمالي، تبرز نقطة ساخنة أخرى، وهي بحر البلطيق، إذ إن أكثر من 45 من واردات أوروبا من الغاز جاءت خلال الربع الأول من 2023 من هناك، وتحديدا من النرويج، وباتت الأخيرة طوق النجاة للأمن الطاقوي الأوروبي، بعد منع الغاز الروسي من الدخول إلى السوق الأوروبية إثر الحرب الأوكرانية. وينفذ حلفاء "الناتو" مناورات عسكرية مستمرّة في أقاصي الشمال القطبي كاستعراض للقوة ورسالة ردع للصين وروسيا، ما يرفع من مستوى نشوب تصعيد عسكري في القطب المتجمّد. ونشرت أميركا غواصات نووية لها القدرة على الإبحار أشهراً طويلة في المياه المتجمّدة، وجزء من هذه الغواصات يحمل علماء جيولوجيين يرصدون التحوّلات المتسارعة في المياه القطبية.
ترى موسكو أنّ تعزيز الردع الاستراتيجي في القطب الشمالي يضمن عدم تمدّد "الناتو" شرقاً أكثر مما هو عليه حالياً
في الأثناء، يقوم الجيش الكندي بثلاث عمليات عسكرية منسقة تغطّي الأراضي الشاسعة المطلة على القطب الشمالي، وتجنّد كندا في سبيل ذلك السكان الأصليين من شعب الإنوييت لخبرتهم الكبيرة في تضاريس المحيط المتجمّد. وقامت النرويج بتحديث أسطولها البحري ونقل مقرّ قيادته لتحقيق إشرافٍ أوسع واطلاع أفضل على المحيط القطبي، وعزّزت الدنمارك من ميزانيتها العسكرية المخصصة لجزيرة غرين لاند المتجمّدة، إذ خصّصت 100 مليون دولار سنويا زيادة في الميزانية العسكرية، لتكثيف قواتها في قاعدة ثول الاستراتيجية المهمّة، والتي استخدمتها الولايات المتحدة إبّان الحرب العالمية الثانية قاعدة عمليات عسكرية، وتضم القاعدة معدّات تكنولوجية متقدّمة لرصد الصواريخ، وتشكل قاعدة مهمة لعمليات البحرية الدنماركية.
ويمثل انضمام فنلندا والسويد إضافة نوعية استراتيجية مهمّة، فبالإضافة إلى الموقع المتقدّم الجديد لحلف الناتو، تعدّ السويد من الدول الرائدة في الصناعات التكنولوجية العسكرية، وهي من دول الحلف القليلة التي يضم أسطولها طائرات حربية متقدّمة تمّ إنتاجها محليا، ولفنلندا سمعة عسكرية تاريخية جيدة، إثر الأداء القتالي العالي الذي أظهره جيشها إثر الغزو السوفييتي، في ما يُعرف بحرب الشتاء عام 1939، إذ استطاعت القوات الفنلندية بظروف مناخية متجمّدة شديدة القسوة تكبيد القوات الغازية خسائر هائلة، دفعت الاتحاد السوفييتي إلى تغيير خططه من الغزو الشمالي، الى الاكتفاء فقط ببعض الأراضي.
ووسط حالة العسكرة وتنافس القوى العالمية على موارد القطب الشمالي وثرواته، يكاد لا يُسمع صوت للسكان الأصليين للقطب الذين عاشوا آلاف السنين في المنطقة، إذ لا يضم مجلس القطب الشمالي أي ممثل لتلك الشعوب، وليس لهم أي تأثير في تحديد مصير أراضيهم، وعلى الأغلب لن تكون لهم حصّة معتبرة في الثروات المدفونة في أراضيهم، في مشهد آخر يتكرّر لضحايا صراع القوى العظمى.