هل تتكرّر التجربة الأفغانية في العراق؟
أثار انسحاب أميركا من أفغانستان فجأة، مع هروب الحكومة التي نصّبتها هناك، ردود فعل قوّية جداً. ولم تغالِ صحيفة نيويورك تايمز، عندما كتبت: "ربما لا أحد صُدم من الكارثة في أفغانستان أكثر من شعب العراق. إنهم قلقون أكثر من أي شخص آخر، من أن بلدهم قد يواجه مصيراً مشابهاً". ولكن بقدر ما انزعج بعضهم من الخطوة الأميركية، رحب آخرون بها! وحتى قبل أن يتحوّل الانسحاب الأميركي إلى انهيار كامل للدولة الأفغانية، واستيلاء حركة طالبان الكامل على السلطة، كان عراقيون عديدون قانطون يعبّرون، خفية، وبأسلوب غير مباشر، عن قلقهم للغاية إذا جرى الانسحاب الأميركي من العراق. وهل ستنهي الولايات المتحدة وجودها البالغ 2500 جندي في العراق أيضاً؟ إذا كان الأمر كذلك، فسيؤدي هذا إلى استيلاء المليشيات الإيرانية على السلطة، أو عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو حرب أهلية محتملة تشعلها إيران؟
أثارت المشاهد اليائسة في مطار كابول أخيراً مشاعر القلق بين العراقيين المتمتّعين بالنظام الحاكم، إذ ذكّرهم بالانهيار أمام سطوة "داعش" في الموصل. وكانت أميركا قد انسحبت عام 2011، لكنها "اضطرّت" إلى العودة إلى العراق، لوقف زحف "داعش" على بغداد وباقي أنحاء العراق. ويخشى العراقيون اليوم من المصير نفسه وسط ضغوط إيران بشأن الانسحاب الأميركي الكامل من العراق، كالذي حدث في 2011، إذ تضغط على الحكومة العراقية، لتطلب مغادرة القوات الأميركية، ليخلو الجو لها للهيمنة الكاملة.
يخشى كثيرون أيضاً أن تجد قضية الانسحاب من بغداد التي تحفزها إيران وعملاؤها باباً مفتوحاً في واشنطن
من السهل سرد أوجه الشبه بين العراق وأفغانستان، فلكلّ منهما حكومة منقسمة تعطي الأولوية لسياسة المحسوبية على حوكمة قوات الأمن المختصّة والخدمات الحكومية الأخرى. وإنّ الحكومتين تتنافسان على من هو أكثر فساداً. وإنّ الجيش في كلتيهما غير مستعد للوقوف في وجه المليشيات الجامحة التي تهدّد سيادة البلدين، وتبطش بالناس وتعبث باستقرارهم، وإن الأمر لا يتعلّق بالقدرة، بل بالإرادة السياسية المزيفة، التي يعرفها الأميركان حق المعرفة. فكلّ من الحكومتين في العراق وأفغانستان يشكو من تحالف المليشيات المضادّة، لكن كل واحدة منهما تعمل في واد آخر، فلا قُضي على المليشيات الإيرانية في العراق، ولا قُضي على المليشيات المضادّة في أفغانستان، وفي الصدارة "طالبان"! وإنّ أميركا تدرك أنّ الخيوط بأيديها، ولكنها سخّرتهما كي يلعبا كلّ في ملعبه مباراة طويلة مع إيران، بينما يشكّ العراقيون في أن أميركا ستكون نزيهة في التعامل معهم.
يخشى كثيرون أيضاً أن تجد قضية الانسحاب من بغداد التي تحفزها إيران وعملاؤها باباً مفتوحاً في واشنطن، لأسبابٍ ليس أقلّها أن الفريق الذي انسحب من العراق في عام 2011 عاد إلى البيت الأبيض اليوم. وهنا يشعر العراقيون بالقلق من أن إدارة الرئيس بايدن قد تتعايش مع حكومة عراقية بقيادة المليشيات، إذا أوقفوا الهجمات على المصالح الأميركية! ويخشى أغلب العراقيين تداعيات الموعد النهائي للإدارة لسحب القوات القتالية الأميركية من العراق بحلول نهاية عام 2021. ومؤكّد أنّ أولويات واشنطن المتغيرة والتعب من العراق ليسا مجرّد موقف ديمقراطي. كانت إدارة ترامب هي التي هدّدت بإغلاق السفارة الأميركية في بغداد بعد زيادة هجمات المليشيات على العسكريين والموظفين الدبلوماسيين الأميركيين. فضلاً عن أنّ التقلبات السياسية والسياسية الحادّة في واشنطن تربك أصدقاءها وشركاءها في العراق، الذين بدأ عديدون منهم يبحثون عن بدائل من الرعاة لمواجهة نفوذ طهران وطغيان مليشياتها القذرة!
من المحتمل أن يسير العراق في طريق أفغانستان، ما لم تضبط العلاقة بينه والولايات المتحدة
هنا أقول، إنّ على العراقيين أن يؤكّدوا، في رسائل واضحة منهم، مخاطر ما سيحدث في العراق، وقد أصبح في رعاية إيران ومليشياتها. ولكن من طرف آخر، وعلى الرغم من التشابهات بين البلدين، الحقيقية والتخيلية، يختلف العراق عن أفغانستان، إذ هناك دعم من الحزبين الأميركيين لمواصلة المسار في العراق، وعدم تجاهل التهديد الذي تشكله أجندة إيران التوسعية في العراق، من أجل هيمنتها على سورية ولبنان والمنطقة. وبغضّ النظر عن المصالح الأميركية، لدى العراق فرصة أفضل لكبح حكم المليشيات، بالنظر إلى الترياق المحلي للنفوذ الإيراني وحركة الاحتجاج الشعبية، لكن المزاج الشيعي الجمعي في العراق يخشي فقدان السلطة الدينية وخروج الحكم من أيديهم، وهو هاجسٌ خالٍ من الوطنية تماماً. وهنا، يفكّر كل من الكرد والعرب السُّنة بالانفصال، إن وصلت المليشيات إلى السلطة، فضلاً عن أن نجاح المهمة الأميركية في سورية يعتمد على وجود أميركي في العراق.
على الرغم من ذلك كله، من المحتمل أن يسير العراق في طريق أفغانستان، ما لم تضبط العلاقة بينه والولايات المتحدة. ومن خلال سلطة عراقية وطنية ونزيهة ومساندتها في إنهاء المليشيات الإيرانية، ونفوذ إيران ووكلائها والمليشيات ستواصل هجماتها على الوجود الأميركي، مع العلم أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الصبر والردع. ومن أجل مستقبل موحّد للعراقيين، ومنع تقسيم بلدهم، ينبغي أن تستمر العلاقة الأميركية العراقية، فالعراق بحاجة إلى طبقة سياسية أكثر خبرة وقدرة في الحكم. ويجب أن يكون الوجود الأميركي في العراق غير مسيّس. وينحصر بتقديم المشورة والمساعدة من دون التخلي عن العراق ليكون إقليماً إيرانياً بشكل مفضوح، فالشعب العراقي بحاجة إلى الشعور بفوائد العلاقة مع أميركا في مجالاتٍ مثل التجارة والرعاية الصحية والتعليم والاستثمارات والتسليح، إلخ.
أولويات الولايات المتحدة تتحوّل بعيداً عن الشرق الأوسط الكبير، ويقع العبء على العراقيين الوطنيين لتحمّل المسؤولية
يطالب العراقيون واشنطن بأن تعيد حالة التوازن بين بلادهم وإيران، فمن السهل سرد المتوازيات الصعبة. ولكن من السخرية أن تشعل النار، وتخرج لتتفرّج من خارج الحلبة. لا يمكن أميركا أن تحتل أفغانستان 2002 والعراق 2003، وتزرع فيهما الفوضى، ثم تتركهما للمجهول، ثم تترك البلدين يواجهان مصيراً صعباً وأن تفلت من دون اكتراث. أولويات الولايات المتحدة تتحوّل بالفعل بعيداً عن الشرق الأوسط الكبير، ويقع العبء، أولاً وقبل كل شيء، على العراقيين الوطنيين لتحمّل المسؤولية والاستثمار في علاقةٍ قويةٍ مع الولايات المتحدة. وسيُرسي المستشارون العسكريون (2500 مستشار) تلك العلاقات الأميركية العراقية، وسيشيرون إلى استمرار الدعم الدولي وحلف شمال الأطلسي للعراق. ولكن يجب ألا تكون العلاقة بأكملها.
بعد أفغانستان، قد يتخّوف العراقيون من المصير الذي سيلحق بهم، خصوصاً أن المجتمع متأزم جداً بسبب انعدام تجانسه وضعف انسجامه مع قناعة شعبية راسخة بأن الأميركان نكّلوا بالعراقيين، عندما سلّموا العراق لإيران ووكلائها، ما رسّخ التبعية لإيران، وتعاقب حكومات هزيلة ليست لها قدراتها ونزاهتها ووطنيتها أخيراً، فإن تجربة خروج أميركا من أفغانستان قد أثارت العراقيين بشكلٍ يثير اللغط. وعلى أميركا معالجة الفساد العراقي المنتشر باعتباره تحدياً حقيقياً للأمن الوطني، وإعادة النظر في العملية السياسية والدستورية، والاعتماد على نخبة ذكية تقود البلاد نحو الوحدة والتغيير.