هل الدفاع عن كوارث التاريخ صيانة للإسلام؟
ليس الدفاع العاطفي عن زبائل التاريخ السياسي للمسلمين صيانة للدين، بل فتنة للجيل الجديد، كما جرى من قبل حين الافتراقات المذهبية التي صنعها النفوذ السياسي، منذ البغي على الإمام علي، وإشعار الملاعنة له في منابر بني أميّة، ومنذ حملة الاعتقالات والقمع التي قام بها الأمويون والعباسيون، وتتابعت في ممالك إسلامية إلا من رحم ربك، وكان زهرتهم عمر بن عبد العزيز. بل إن الأئمة الأربعة كانوا ضحايا ذلك البغي الذي أُسّس على العصبية، والانحراف السياسي، حتى جُلد مالك في حديثٍ لا طلاق لمستكره، وكان يعني به أن لا بيعة سياسية لمستكره، وظل يردّدها والعباسيون يطوفون به لإذلاله في المدينة. أما أبو حنيفة النعمان فكان يدعم الثورة المسلحة التي كانت تسعى إلى إيقاف اختطاف الشورى، وحرية اختيار المسلمين قيادتهم السياسية، فضلا عن غيره من أئمة أهل السنة الأكثر ثورية.
هذا كله يعني أن حجم الخلل، بما فيه نزعة الحقد على الخليفة عثمان، ومذبحه على مصحفه، كان حقيقة في تاريخ المسلمين السياسي، لا يمكن أن يقال إنها أخبار فتنة عارضة، بل كانت فتنة باقية ممتدّة آثارها مسيطرة حتى اليوم، فقد استُخدمت فكرة التوريث في كل العهود، بناء على هذا الانحراف. وهذا لا يعني أن كل من حكم بالتوريث كان سيئاً، فمعاوية بن يزيد كان عدلاً عظيما، ورأى السلف تنازله خطأً لكونه أتاح للعصبية الأموية أن تعود إلى بغيها، مع أن مقصده كان أن يردّ الأمر إلى اختيار الأمة، كما أشار في خطبة اعتزاله.
حذّر النبي من نشوء انفجار العصبيات فيما وقع بين الأوس والخزرج، وفيما وقع بين المهاجرين والأنصار، وهو بين أظهرهم
كما أن هذا التوريث يُقدّر بثقافة اليوم في حدود ما صلح حاله من عدالة سياسية، أو من خلال المدافعة المدنية، وليس من خلال الثورات المسلحة بالضرورة، فهذا سياقٌ يعود إلى حال الأوطان وواقعها ومصالح الناس وحقن دمائهم. ما يعنينا هنا هو حسم هذه المسألة، في أن الانحراف إلى العصبية الاجتماعية، ثم ما طرأ من انقسام بين المسلمين، بما فيه موجة التوظيف السياسي ضد مذاهب متعدّدة، واستخدامها في دعم شريعة التوريث قديم جداً، بنيت عليه اليوم توظيفات الفقهاء السياسية. بل إن النبي، صلى الله عليه وسلم، حذّر من نشوء انفجار العصبيات فيما وقع بين الأوس والخزرج، وفيما وقع بين المهاجرين والأنصار، وهو بين أظهرهم. وهذا يعني أن القرآن بلاغ الله للعالمين، هو اختبار للمسلمين أيضاً، في فعلهم السياسي، فحين ينقضون مبادئ العدالة السياسية والاجتماعية يرتدّ عليهم هذا البغي بينهم، فيمن مارس البغي ومن دعمه ومن روّج انحرافه عن الإسلام.
وهنا يبرز لنا كيف حُرّف الموقف الإسلامي في كتب علماء التراث المتقدّمين، وكيف كانت لبعضهم مواقف مخزية، كما كان لآخرين مواقف مشرّفة، حتى الزمن المعاصر، حين وقفت مشيخة الأزهر، وهي مؤسسة تقليدية فقهية، ودعمت ثورة أحمد عرابي ضد الإنكليز وضد الأستانة العثمانية التي دعمت لندن ضد الثورة فخُذلت حينها مصر التي كانت حركتها الوطنية مؤمنةً بالإسلام وبالحق الوطني للعرب. وقس على ذلك تاريخا مليئا بالمقاومة السياسية من علماء. وفي المقابل، هناك علماء ظلوا يردّدون زبائل التراث السياسي، ويكتمون أو يجهلون قواعد القرآن الكريم العدلية، والتي تُفهم نصوص السُنّة عبرها، إذ أول ما يُفسّر به النص هو الرجوع إلى القرآن الكريم، فهل العدل والشورى نُسخا في كتاب اللهّ!؟
وقد كان ذلك الانحراف السياسي مساعداً قوياً على اجتياح العصبيات حاضر العالم الإسلامي، وبالتالي صعدت مصلحة القبيلة والمذهب والطوائف الأخرى على مصالح المسلمين، واستُخدم تأويل النص بحسب هوى العصبية، وبدلاً من أن يُفهم في سياق كليات القرآن وقطعياته، لوُي النص ليبرّر للمنحرف، سياسياً كان أو اجتماعياً أو غير ذلك. وعليه، أُسقط الفهم لحق الإنسان المطلق كفرد بين هذه العصبيات القومية أو المذهبية أو الطائفية، وأصبحت صورة الإسلام متعدّدة متناقضة عند فئاتٍ من أجيال المسلمين ترى أن الإسلام يتعدّد في الظلم والبغي، بحسب مصالح عصبيته، وليس في احتواء الأمم وتعدّدهم. ولذلك كان مهماً للغاية، بل فريضة على المسلمين إعادة تحرير فهمهم وواقعهم وحق الإنسان، كل إنسان، بغض النظر عن منعته العصبية أو المذهبية، بحسب كليات القرآن، لا زبائل التراث والمستبدين.
ما يهم هو حجم جهل بعض الإسلاميين بتاريخ الدولة العثمانية، واعتبار عهدها تشريعياً يجب العودة إليه
وهنا يعود السؤال مجدّداً: أي حكم شرعي يطالب به بعض الإسلاميين، هل هو ذلك الإرث من قرون البغي التي أسقطت حق الإنسان، مسلماً أو غير مسلم؟ وهذا لا يعني إسقاط آثار الرسالة في حياة المسلمين، ومصلحة الشعوب في القيم الإيمانية سلوكاً وأخلاقاً وتشريعاً، ولكن الأزمة في الإصرار على هيكلة الفقه السياسي اليوم من خلال البناء على إرث البغي وفقهائه.
في المقابل، منظومة الدولة المدنية هي الأقرب إلى تحقيق المعيار الثابت، وبالذات الحق السياسي والدستوري. والغريب أن فقه هذا الأمر كان حاضراً عند كل شخصيات الإصلاح التي آمنت بالجامعة الإسلامية، من العرب والترك وحتى آسيا الهندية. ولذلك أيّد بعضهم فكرة الحكومة الدستورية للاتحاد والترقي بعد انقلاب 1908، بعد أن جهد أولئك الإصلاحيون في دعوة السلطان ورجاله إلى التقدّم للإصلاح، قبل أن ينكشف لديهم الوجه الآخر من تطوّر التتريك العنيف، ولعبة الاتحاديين مع الأمم، على حساب أقاليم العالم الإسلامي.
ويُلاحظ هنا أن هذا الانقلاب نفذه قادة الدولة العثمانية ذاتها التي كان بعضهم يبطش بأقاليم العرب وغيرها، كجمال باشا السفاح. وهنا تعجّبٌ ممن يدافع عن تلك القيادات في جرائمها، بحكم أن عهدها كان تحت السلطة العثمانية قبل العزل، ثم يعتبر ما جرى منهم في عزل السلطان عبد الحميد جريمة التاريخ الكبرى. وما يهم هنا حجم جهل بعض الإسلاميين بتاريخ الدولة العثمانية، واعتبار عهدها تشريعياً يجب العودة إليه.