التشريع بين الشعب والخالق
في مفصل مهمّ من تاريخ تفكيره وحفرياته المستمرّة للوصول إلى قاعدة تأسيسية قوية تبرّر مرجعية التعاقد الاجتماعي، يعود جان جاك روسّو إلى هوغو غروسيوس، لبناء هذه القاعدة الصلبة التي يسعى إليها، فهو يعارض غروسيوس في إعلانه أنّ الشعب يجوز أن يمنح المَلِك حرّيته في إطارَ تعاقدٍ مدني، ولكنّه يقول إنّ غروسيوس تحدّث عن الشعب ثمّ العَقد، فنحن نعود إلى العهد القديم، أولاً، وهو أنّ الشعب باقٍ في أصله قبل تعاقده، فنبطل التعاقد ونحافظ على المفهوم، وهو وجود شعب، ولا يجوز أن يُعطِي الشعب أي زعيم هذه الحرّية والمرجعية، ولو مَلَك نصف العالم، ثم يرجع روسّو إلى مناقشة النسبية التمثيلية في الديمقراطية: على أي أساس تخضع الأقلية للأكثرية؟
يرى روسّو أن هناك ضرورة لأصلٍ يُجمَع عليه، ولا يوجد في الحقيقة مجال لهذا الإجماع لدى الكائن البشري، ربّما إلا في حالات الفطرة الوجودية، وأمّا في اختيار النظام السياسي فكيف نصل لهذا الإجماع، حتّى مع وجود هيئة سياسية منتخبة؟... إنّ المفصل الذي يدور حوله روسّو، هو محاولة الوصول إلى مرجع قانوني يبرّر بنود التعاقد والخضوع لها، وهذا هو الفارق الإسلامي في مرجعية التعاقد، من الوصف حتّى التشريع، فالحالة البشرية لا تستطيع أن تفي بتقديم وصفٍ وشرحٍ تاريخي لوجودها إلا عبر الاجتهاد، وتعقّب سير الجماعات البشرية، وهذا ما حاول فعله روسّو، الذي غرق في العهد الروماني من دون غيره، ولم يناقش مرجعية الإبادة في إجماع أو أكثرية (السيناتور).
وهكذا، نُقضت أصول العدالة من هذه الهيئات المنتخبة، نسبياً، من طبقة محدّدة، لم تراعِ السواسية البشرية، وكانت تدور حول مصالح أمتها القومية، بل والطبقة العليا فيها، إنّ الإشكالية العميقة، هنا، هي في تعريف صفات هذه المرجعية، وهي علّوها على المصالح والنزعات البشرية ذاتها، التي تخالطها، في طبيعة تكوينها، مشاعر الشهوة والسطوة أو الحب والكراهية، في الدائرة ذاتها، وهذا هو مبرر الحضارة الإسلامية الأخلاقي والتشريعي في المرجع الإلهي، وهو المرجع الذي قال عنه روسّو في "أصل التفاوت بين الناس" (1755)، إنّه لو ضمن الوصول إليه، لكان بحقّ مرجعاً معرفياً لفهم تاريخ البشر والأمم.
يرى روسّو أن هناك ضرورة لأصلٍ يُجمَع عليه، ولا يوجد في الحقيقة مجال لهذا الإجماع لدى الكائن البشري
لكنّ روسّو، في ذلك الموضع، استرسل في أزمة الدعاوى الكثيرة، والانقسام الوثني والمسيحي في صراع الدين، وبالتالي، طرح سؤاله التبريري في نبذ مرجع التحاكم الإلهي في التشريع والأخلاق، وإن ظلّ يستدعيه بناء على فهمه، وعلى استقلال أستاذه الروحي كاهن سافوا، فحضر الدين مراراً في نظريات فلسفته، وفي تربيته لـ"إميل"، وبالذات في إعداد الفتيات وزوجات المستقبل، أي إنّ روسّو كان يقارب هذه الفطرة، ولكنّه يسدّ ما عجز عن فهمه باستنباط (طبيعي)، اعتقدَ أنّه سيغطي علم الإله الخالق، حسب رأيه.
احتجاج روسّو ببطلان المرجعية الدينية، بناءً على فوضى تعدّديتها وتناقضها، هو صحيح من ناحية وضع هذه الفوضى، التي وصلت إلى المسلمين أنفسهم، فتورّطوا في هذه الصراعات، بل وفي خلق إسلامات مُتعدّدة، غير أنّ النص المُقدّس الأصلي، وما انسحب على الوحييْن وقواعدهما، وسَلِمَ من تدخّل الهوى السياسي، والتواطؤ الديني، فهو بالفعل مبادئ عظيمة لا نظير لها في وصف الذات البشرية وتاريخ وجودها، وقواعد التشريع، التي تُصلِح الإنسانية فيها. ومنذ البيان الأول، الذي حدّد الوجود البشري وقصّة الخلق، ثمّ الكرامة الآدمية، وسر الوجود بصلاح الأرض وبتخصيص العبودية للخالق، ثمّ وضع الإطار العام لهذه الجماعات البشرية، فأنت تجد فيها مرجعية لا تخضع للنزوات، ولا للمصالح ولا للشهوات، المُقرّبون من الوحي هم من يطيعونه، لأنّهم اتبعوا هذه التعاليم والحقائق من ربهم الخالق، ومن نَبَذَ اليقين في مصالح العالمين، كان صدره حرجاً وفهمه ضيقاً، ولو ملك كنوز الأرض. إنّ قوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، ثمّ قوله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، ونصوص العدالة والإحسان، وتغليظ شأن الظلم، وقاعدة الرعاية للفقراء والمضطرّين والمعوزين، وكون كلّ تعاليم الخيرية وقانون تشريعاتها، هو من الله الخالق المُبدئ المُعيد العليم البصير الرحيم، الحكيم الخبير فوق كلّ إدراك بشري بسيط ومحدود، هو العهد الذي تحتاج إليه الأمم في أصل قاعدتها التي تنظّم حقوقها، وتردع الأمير أو السيد الفرد الذي سعى روسّو لكبح صلاحياته، حتّى لا يعود الاستعباد إلى الحياة البشرية، الإشكال هو في ضرورة تحرير المرجع الديني، وفرز الخلل التاريخي عنه.
نستحضر أزمة التفكير الإسلامي، الذي انقطع عن فقه الدولة والعمران، وكان مصدره الأعلى كافياً لتحديد مرجعية الخلق وشرعتهم القانونية
وهنا، لا إشكال مطلقاً في سعي روسّو إلى تنظيم المرجعية الدستورية العليا للشعب، في هيئة منتخبة، لكن رهن السقف التشريعي بين أمزجة الهيئة السياسية، هو اليوم أحد إشكالات النظام الديمقراطي، وتعدّديات سقوطه، من دون أن يعني ذلك تزكية نظام المُستبدّ الفرد. لقد سعى روسّو إلى أن يقيم مجموع الشعب في منزلة السيد المطلق، لكنّه اضطر من جديد إلى ندب تلك الهيئات وكيلاً عن السيد، حتّى يعطي الشعب حقّه المرجعي النهائي، أو ينزع إلى الاستفتاء لمنع تغوّل المُستبدّ الفرد، ذلك كلّه وسائط تُحشّد لتجنّب الاستعباد السياسي، لا حرج فيها، غير أنّها جميعاً لا تضمن استقلال ونزاهة، ولا حتّى عمق الفهم النافذ لمصالح الإنسان في فطرته. فهذه الهيئات ذاتها قد تنحطّ ضدّ الفطرة، وقد يستفتى الشعب وهو يعتمد على غالبية وليس على إجماع، ويصوّت لحرب مظلوم، أو لقانون مُجحفٍ، ينقض الفطرة، أو ينحاز سياسياً أو اجتماعياً، فهل وصل روسّو هنا، للتأمين التعاقدي المطلق، لضمان علوية نزيهة للشرعية الاجتماعية السياسية؟
لم يصل، والتجربة الأوربية ذاتها، تدلّ على ذلك، ولذلك نستحضر هنا أزمة التفكير الإسلامي، الذي انقطع عن فقه الدولة والعمران، وكان مصدره الأعلى كافياً لتحديد مرجعية الخلق وشرعتهم القانونية.