هل أخذ بوتين بنصيحة ميتران؟

10 اغسطس 2023
+ الخط -

"لا وجود لفرنسا في القرن الواحد والعشرين من دون أفريقيا"، القول للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران. هل هو محقّ؟ وهل ما تشهده دول أفريقيا من انقلابات بات يهدّد الدور الفرنسي على الساحة الدولية؟

لطالما فعّلت فرنسا حضورها في الساحة الدولية، فهي حاضرة في مختلف الأحداث العالمية من الحربين العالميتين إلى حقبة الاستعمار والانتداب. ولم يقتصر ذلك على الحضور العسكري، بل أيضًا كانت رائدة في إرساء حقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني والحضاري عبر ثورتها عام 1789. يعتبر بعضهم أن قوة فرنسا مستمدّة من ثلاثة عوامل، عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وقوتها النووية، ووجودها في أفريقيا.

بدأت فرنسا استعمار أفريقيا منذ القرن السابع عشر، ثم نشطت في القرن التاسع عشر في دول وسط أفريقيا، بشقّيه الشرقي والغربي، كالسنغال ومالي وساحل العاج ثم الكاميرون وتوغو. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ضغطت الدول لنيل استقلالها، إلا أن قائد فرنسا ديغول كبّلها باتفاقيات جعلت استقلالها منقوصًا، أشهرها اتفاقية "الاستفادة من الاستعمار".

رغم الاستعمار القاسي، إلا أنّ متابعين كثيرين وجدوا فيه طريق فرنسا نحو بسط النفوذ. تُجبر فرنسا 14 دولة أفريقية على دفع 50% من احتياطاتها من العملة الأجنبية، يعني أن نصف المبالغ التي تُتاجر فيها أفريقيا تذهب إلى خزينة البنك المركزي الفرنسي، والذي ضخّ فيه قرابة الـ500 مليار دولار عامًا بعد آخر من هذه العملات، وتفرض عليها استعمال عملة "فرانس أفريك" منذ 70 عامًا، وهذه تُصك في فرنسا ومرتبطة بسعر صرف اليورو. والنتيجة أن اقتصادات المنطقة ظلت ضعيفة والناس فقراء، لأن المواد الخام التي يُنتجونها لا يمكن تصديرها بسعر يتحكّمون به لارتباط كل السياسات المالية ببنوك تابعة لفرنسا، وكان القمع نصيب من طالب بغيرها. وصرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عام 2019، عن دعمه عملة تنوي دول غرب أفريقيا طرحها وإلغاء ضريبة الخزينة، لكن الاتحاد الأفريقي شكّك بنيات ماكرون. لهذا برزت حركات معارضة للحكم الفرنسي في أفريقيا.

أدّت الانقلابات الى تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا، ما فتح الباب أمام امتداد النفوذ الروسي عبر مجموعات "فاغنر" المسلحة

مع تعاظم الدور الروسي، بعد تولي الرئيس بوتين السلطة، بدأت أعين روسيا تتّجه نحو القارّة السمراء. وها هي تعوّل على نجاح القمّة الروسية الأفريقية الثانية التي عقدت في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في ضوء استراتيجية توسيع نفوذها في القارّة السمراء. صحيح أن بوتين في القمة هدف إلى تطمين الأفارقة بأن موسكو ستمدّ بلادهم بالقمح، في محاولة لإظهار تعاطف بلاده مع شعوب الدول الأفريقية، لكن الأمر يأخذ بعدًا استراتيجيًا وليس إنسانيًا، بالنسبة إلى السياسة الخارجية لروسيا. ففي مارس/ آذار الماضي صدّق بوتين على استراتيجية روسيا للسياسة الخارجية التي نصّت على أن بلاده "تعتزم إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الغرب على الشؤون العالمية". وهو ما تُرجم خلال القمة في حديث بوتين إن بلاده وأفريقيا "تؤيدان إنشاء عالم متعدّد الأقطاب مبنيٍّ على احترام الشرعية الدولية".

أصبحت النيجر آخر دولة، في غرب أفريقيا، يستولي فيها الجيش على السلطة بعد بوركينا فاسو، غينيا، مالي، وتشاد، وكلها مستعمرات فرنسية سابقة. وتفيد الإحصائيات بأن نسبة 78٪؜ من الانقلابات، التي حصلت في أفريقيا كانت جنوب الصحراء. فهذه الانقلابات أدّت الى تراجع النفوذ الفرنسي فيها، ما فتح الباب أمام امتداد النفوذ الروسي عبر مجموعات "فاغنر" المسلحة.

تشهد فرنسا انتكاسات متتالية في الساحل الأفريقي، جديدها أخيرا المحاولة الانقلابية في النيجر، التي تعدّ المعقل الأخير للقوات الفرنسية بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو. وقد واجهت ضربات متتالية في الدول الأفريقية من قبل انقلابيين مدعومين من روسيا تحديدًا، في رسالة واضحة لضرب النفوذ الفرنسي في القارة السمراء. وتعدّ النيجر كما غيرها من الدول الأفريقية ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية بالغة لفرنسا، إذ تستولي شركات فرنسية على مقدّرات البلاد، أبرزها شركة "أورانو" على يورانيوم النيجر، رابع منتج لهذه المادة عالميًا، التي تلبي حوالي 75% من الطاقة الكهربائية في فرنسا.

تواجه فرنسا رفضًا شعبيًا أفريقيًا، قبل أن تواجه انقلابات عسكرية تنهي الاتفاقيات معها

يطول العدّ في خسائر فرنسا الاقتصادية من الدول الأفريقية، كما خسارتها الاستراتيجية، لهذا كثّفت روسيا الجهود، لإزاحة فرنسا من المشهدية الدولية. ويبدو أن الحرب الأوكرانية لم تأت بنتائج مباشرة كان بوتين ينوي حصولها، في مقدّمتها تفكيك الوحدة الغربية، عبر إطالة أمد الحرب. هذا ما لم ينجح إذ شكّلت الحرب الأوكرانية اتحادا لا مثيل له عند الغرب بمواجهة الهجوم الروسي.

استبدل بوتين مشروعه الهادف لضرب الوحدة الغربية، من خلال الاستفراد بكل دولة على حدة. وما الانقلابات العسكرية في بعض دول أفريقيا إلا دلالة واضحة على الدور الروسي، لطرد الفرنسي من القارّة السمراء. قرأ بوتين جيدًا مقولة ميتران وسار بها، كي يحبط عزيمة فرنسا في لعب دور على الساحة الدولية، الأمر الذي يساعده في ضرب وحدة الغرب. وقد يكون له نيات بطرد فرنسا من الدول الأفريقية، لضرب اقتصادها والتأثير على قرار دعمها كييف في الحرب الدائرة في شرق أوروبا، لكنّ سياسات فرنسا تجاه القارّة السمراء لم تكن على ما يرام، بل دفعت الأفارقة إلى الهجرة، لأنها أفقرت قارّتهم؛ إذاً لولا أفريقيا لأصبح اقتصاد فرنسا الـ15 وليس من أول ستة اقتصادات في العالم.

هناك دعم روسي بارز في حركات الانقلابات التي حصلت، ولكن اللوم الأبرز يقع على السياسات الفرنسية تجاه الشعوب الأفريقية، حيث تواجه فرنسا رفضًا شعبيًا أفريقيًا، قبل أن تواجه انقلابات عسكرية تنهي الاتفاقيات معها، وتنذر جنودها بضرورة مغادرة البلاد.