من يمنع الحرب بين واشنطن وبكين انطلاقاً من تايوان؟

12 يونيو 2024
+ الخط -

ربط وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أمن بلاده بأمن منطقة آسيا والمحيط الهندي، موجهاً هجوماً مبطناً إلى الصين بعد يوم من لقائه النادر نظيرَهُ الصينيَّ دونغ جون في 31 الشهر الماضي (مايو/ أيار) على هامش منتدى "شانغريلا" الدفاعي في سنغافورة والذي اختتم أعماله في 2 يونيو/ حزيران الجاري، قائلاً أمام المنتدى، "لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون آمنة إلا إذا كانت آسيا آمنة، ولهذا حافظت الولايات منذ فترة طويلة على وجودها في هذه المنطقة".

ناور أوستن عندما طرح الرؤية الاستراتيجية للسياسة الأميركية في المنتدى، لأنه أخفى في جزء منها سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، الهادفة إلى الاعتماد أكثر على "احتواء" الصين بصفتها قوة صاعدة منافسة رئيسية لواشنطن على الساحة الدولية. وعلى هامش المنتدى ذاته وفي ردّه على نظيره أوستن، قال وزير الدفاع الصيني دونغ جون، خلال كلمته التي ألقاها، إن دول آسيا والمحيط الهادئ لن تسمح للهيمنة الأميركية بأن تجلب الضرر لمصالحها. وأكّد الوزير دونغ جون أن شعوب هذه المنطقة تعارض أي محاولات "لتحويلها إلى دول تابعة أو جرها إلى مواجهة جماعية".

من قارّة آسيا، وتحديداً منطقة جنوبها والمحيطين الهادئ والهندي، تستعر حرب لم تعُد خفيّة بين القوتين العظميين الصين والولايات المتحدة، تحت عنوان "فرض النفوذ والهيمنة". على وقع قرع طبول حرب التصعيد الخطابي في منطقة تشهد على تجاذبات المصالح الصينية الأميركية، تحديداً جزيرة تايوان، يتساءل المتابع هل ستكون هناك مرحلة الصدام الأكيد؟

يجيد الطرفان اللعب على حافة الهاوية، ولا سيما على مسألة جزيرة تايوان، حيث يمارسان الاستفزاز المنظّم، وإيصال الرسائل. تشكّل تايوان خاصرة الصين الرخوة، إذ تجد في انفصالها خسارة معنوية لها أمام أعدائها في الغرب الذين يقدمون كل أشكال الدعم للجزيرة. لهذا لا تتردّد الصين عن إجراء مناورات عسكرية تهدّد بها الجزيرة أمام كل حدث تتخطّى به تايبيه خطوط الصين الحمراء في تلك المنطقة.

توتر في الإعلام وفي الخطاب السياسي، ولكن في الميدان جبهة هادئة تؤججها بعض الاستفزازات العسكرية في بحر الصين الجنوبي

اعتبرت تايوان أن المناورات العسكرية التي أجرتها الصين واستمرّت يومين حول الجزيرة "استفزازاً صارخاً للنظام العالمي". وقالت كارين كوو المتحدثة باسم رئاسة تايوان "الاستفزاز الحديث الأحادي الجانب من الصين، لا يقوّض فقط الوضع القائم للسلام والاستقرار في مضيق تايوان، بل هو أيضاً استفزاز صارخ للنظام العالمي، يثير خوفًا جديّاً وإدانة من المجتمع الدولي".

وكانت الصين قد أجرت مناورات عسكرية "عقابية" بدأت صباح 20 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، حيث طوقت الجزيرة بسفن وطائرات حربية معتبرة ذلك "عقوبة" على "أعمال انفصالية"، ولا سيما بعد فوز الرئيس الحالي لاي شينغ- تي، المناهض لمبدأ "الصين موحدة". وتمثل سياسة الصين تجاه تايوان الرؤية الكبرى لبكين وتعمدها إلى تفعيل حضورها في العالم، ولا سيما في مناطق النزاع القائمة، هذا ما يزيد من الرغبة الأميركية لكي تكون أكثر عدائية في سياساتها تجاه الصين، في رغبة منها إلى احتواء صعودها الذي يهدد حقيقة النفوذ الأميركي حول العالم. رغم حدّة التوتر القائم بين العملاقين، ورغم اعتبار وزير خارجية الصين وانغ لي في لقائه أخيراً مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن، بأنّ العلاقة بين البلدين تسير بـ"دوامة الهبوط"، يبقى السؤال لماذا لا تجرؤ القوى العظمى على خوض حروب مباشرة بعضها مع بعض كما جرى في الحروب العالمية السابقة؟

لا يبدو أن الصدام العسكري قريب بين الصيني والروسي، أو على الأرجح يستبعد طرفا التنافس ذلك في المرحلة الحالية، حيث تفرض عقيدة "التدمير المؤكّد" نفسها على طرفي النزاع، ما يسمح في المجال لدبلوماسية الانتظار والتريث أن تحتل محور التخاطب في لغة الحرب.

تقوم العقيدة هذه على قناعة بأن لا منتصر في حتمية الحروب بين الدول الكبرى، ولا سيما أن نسبة استخدام الأسلحة الفتاكة باتت مرتفعة. هذا ما سيؤدي إلى إحداث دمار أكيد لن يخرج منه أي منتصر، لهذا يجنّب الأطراف الحرب المباشرة. الدمار المتبادل المؤكد هو عقيدة للاستراتيجية العسكرية وسياسة الأمن القومي، حيث يؤدي الاستخدام الكامل للأسلحة النووية من جانب طرفين متعارضين أو أكثر إلى الإبادة الكاملة.

وفي إطار الاستراتيجية الأميركية في سياستها الهادفة إلى "احتواء" الصعود الصيني إلى الساحة الدولية، تستمر الخزانة الأميركية في فرض العقوبات على الشركات الصينية في إطار المنافسة للحدّ من الاقتصادية الصينية، رغم أن البعض بات مقتنعاً بأن واشنطن تخاطر بالقيادة العالمية والنمو الاقتصادي والتقدم في مكافحة تغير المناخ، عندما تبتعد عن الصين وتفرض تعريفات جمركية مرتفعة.

من قارّة آسيا، وتحديداً منطقة جنوبها والمحيطين الهادئ والهندي، تستعر حرب لم تعُد خفيّة بين القوتين العظميين الصين والولايات المتحدة

توتر في الإعلام وفي الخطاب السياسي، ولكن في الميدان جبهة هادئة تؤججها بعض الاستفزازات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، إلا أنّ فكرة الانزلاق إلى حرب كبرى ليست جاهزة، فالأميركي يدرك، كما الصيني، أن تكرار نموذج الحربين الأولى والثانية، لا يضعف حضورهما فقط، بل يعزّز صعود دول منافسة لهما، على رأسها الهند التي تطمح إلى عودة حضورها إلى الساحة الدولية.

هناك حرب بالوكالة يديرها طرفا النزاع، رغم النفي الدائم للصين في تدخلها إلى جانب روسيا في حرب أوكرانيا. يعتمد الأميركي على إنهاك حلفاء الصين من روسيا إلى إيران في الشرق الأوسط، وصولاً إلى طرح خطة تطويقها في حلف "كواد" لتشديد الخناق على تحرّكاتها العسكرية في منطقة المحيطين. في المقابل، تستغلّ الصين النزاعات العسكرية التي تتدخل فيها واشنطن ولو بطريقة غير مباشرة، بهدف وضع الولايات المتحدة في قفص العدائية للشعوب والحضارات، في مقدمتها الدول الإسلامية من خلال دعم إسرائيل في جرائمها في غزة.

نجحت عقيدة "التدمير المؤكّد" في لجم اندفاعة الطرفين إلى خوض حرب مباشرة، فتحوَّل الصراع إلى لعبة "عضّ للأصابع" في انتظار من سيصرخ أولاً، لكن هل ستبقى قائمة في ظلّ استراتيجية أميركية ترتكز على احتواء الصعود الصيني وبأية وسيلة؟