هذه الفضيحة في تونس
لا يتعلّق العنوان أعلاه بمناصرة مثقّفين تونسيين، بينهم شعراءُ يُفترَض أنهم معنيّون بالحقّ والحرية والجمال، اعتقال الزعيم السياسي الثمانيني، راشد الغنوشي، فيما كتب الصحافي والمعلّق البريطاني، ديفيد كيركباتريك، في مجلة نيويوركر، إن هذا الاعتقال ليس نكسةً للديمقراطية في تونس وحسب، بل في العالم أيضا. ولا يتعلّق العنوان بمقالٍ نشرته صحيفة الشروق التونسية، عن إعادة الرئيس قيس سعيّد العلاقات مع النظام في دمشق، بالتزامن مع إسقاطه "أجندة الانقلاب" في البلاد، وعنْونتْه "الرئيس سعيّد يدفع بالمعركة إلى الداخل الإسرائيلي". ولا صلة للعنوان بـ"طمأنة" وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، التونسيين على صحّة سعيّد، وقد صمتت رئاستا الجمهورية والحكومة نحو أسبوعين بشأن توعكّها. وإنما الفضيحة أن رئاسة الحكومة التونسية نشرَت، أخيرا، على صفحتها في "فيسبوك" خبرا عن تتويج وفدٍ من تلاميذ في نادي الذكاء الاصطناعي من مدينة حفوز (وسط) بالجائزة الأولى، في فئة الهمّة في البطولة العالمية للذكاء الاصطناعي في هيوستن. ثم يتبيّن أن لا علاقة للمسابقة بالذكاء الاصطناعي، وأن الوفد لم ينل الجائزة الأولى، وإنما أُعْطي جائزة ترضيةٍ. فقد أوضح خبير دوليّ أن المسابقة كانت في صناعة نماذج في الروبوتات عن طريق اللوغو، وبرمجتها لتأدية وظائف معيّنة، ينظّمها نادٍ اسمه "نادي الذكاء الاصطناعي"، وإن وفد التلاميذ التونسيين مُنح جائزة تُسند لثلاثة فرق مشاركة، تشجيعا لروحهم الرياضية ومبادرتهم إلى التنافس.
كان طبيعيّا أن يُقابَل إشهار رئاسة الحكومة التونسية الخبر المغلوط بالسّخرية والهزء منه، وأن يُرى شاهدا على نقصان الكفاءة في أداء ما يُفترض أنه جهازٌ إعلاميٌّ يتبع رئاسة الحكومة. وفي محلّه سؤال الوزير التونسي السابق، منجي مرزوق، ما إذا "تعيش رئاسة الحكومة فراغا قاتلا وتيها فقدَت فيه القدرة على التركيز والتمييز وتحديد الأولويات الحارقة للبلاد، وتوجيه جهودها نحوها؟".
مفرحٌ أن تلاميذ في مدينةٍ تونسيةٍ غير ذائعة الاسم يبادرون إلى المشاركة في مسابقةٍ عالميةٍ في الولايات المتحدة للتنافس في شأن ابتكاري وإبداعي. وهذا يدلّ على أن تونس بلد يبقى واعدا بكفاءاته وبنباهة أبنائه، وبتطلّع شبابِه وفتيتِه إلى تحقيق حضورِهم، وهم الذين يحرصون على تعلّم كل جديد، والإفادة منه. وللتونسيين أن يبتهجوا بهذا كله، والمأمولُ دائما أن يعرف أهل القرار والإدارة والتخطيط هذا، ويعملوا على توفير كل الأسباب لتثميرِه وتطويره. وفي البال أن جامعات تونس ومعاهدها وأكاديميّاتها أهّلت طاقاتٍ على درجةٍ عالية من التميّز والإبداع، في حقولٍ غير قليلة. ولئن عرفنا، نحن محبّو تونس وأهلها، منذ عقود، الرقيّ العالي فنّيا وجماليا في السينما والمسرح التونسييْن، وكذا في أداء المنتخب التونسي لكرة القدم، في بطولات كأس العالم وغيرِها عربيا وأفريقيا، وعرفنا أصدقاءَ وزملاءَ تونسيين تميّزوا وتألقّوا في فضائياتٍ وصحافاتٍ عربيةٍ كبرى، فإننا على ثقةٍ مؤكّدةٍ بأن البلد العربي الصغير مؤهّلٌ دائما لأن تتجدّد فيه القدرات والمواهب، وأن الخراب السياسي الذي يُغالبه منذ انتكاسة التمرين الديمقراطي فيه، بانتخاب قيس سعيّد رئيسا، لن يوقف هذا التجدّد، ولن يجعل تونس الخضراء تضنّ علينا بما يلزمنا، نحن العرب، من كفاءاتٍ علميةٍ وأدبيةٍ وفنيةٍ وتقنيةٍ ورياضية، ومن نخبٍ أكاديميةٍ وفكريةٍ لامعة.
الحكومة التونسية برئاسة نجلاء بودن بكماء، بالكاد يُصادَف لأيٍّ من وزرائها قولٌ في أي شأن، إلا إذا أراد أحدٌ منهم النفاق المتزيّد للرئيس البحر العلّامة، كما فعل أخيرا وزيرٌ بائس، ثم أقيلَ من موقعه بإعلانٍ مهينٍ من الرئيس نفسه. وعندما تُفاجئ رئاسة الحكومة التونسيين (والعرب) بخبرٍ عجيبٍ، ربما بدافع أن تنسِب إلى نفسها إنجازا متخيّلا لا صلةَ لها به، فإنما تقدّم شاهدا مُضافا على بؤسِ ما هي عليه تونس، عندما تتولّى تسيير شؤونها حكومةٌ لا تملك شيئا من قرارها، ولا لسانَ لها، وينهض في البلاد برلمانٌ أخرس، وقضاءٌ مقموع، وكلّهم برئاسة شخصٍ متسلّط، تبعثُ على الكآبة والنفور مخاطباتُه، الموتورة والمتوتّرة، وزراء الحكومة ورئيستَهم، المصابين بالخرس في قعداتهم قُدّامه.
كل التحايا للتلاميذ التونسيين الموهوبين في مدينة حفوز، وقد بادروا إلى المنافسة في مسابقةٍ عالميةٍ في هيوستن. والهزءُ مستحقٌّ من رئاسة حكومة بلادهم، عندما أرادت استخدامَهم في شعبويةٍ ركيكيةٍ، ثم انفضحت.