هذه الحسابات التركية والروسية في كازاخستان
فجأة، تحوّلت كازاخستان، الدولة الهادئة في قلب آسيا الوسطى، إلى بؤرة اضطراب لم تفاجئ فحسب نظام الرئيس قاسم جومارت توكاييف، بل أيضا قوّتين إقليميتين تتنافسان على النفوذ في الفضاء السوفييتي السابق، روسيا وتركيا، فلم تكد تمضي بضع ساعات على دعوة توكاييف منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتزعمها روسيا إلى مساعدة نظامه في إنهاء الاحتجاجات الشعبية الواسعة على رفع أسعار الطاقة، حتى استجابت المنظمة لطلبه وأرسلت قوات عسكرية إلى كازاخستان. ويُفيد طلب توكاييف هذا بأن نظامه فقد السيطرة على الاحتجاجات مع تحوّلها إلى عنف مُسلح. وبالنّظر إلى الزخم العسكري لروسيا في هذه المنظّمة، فإن تدخّلها العسكري لدعم نظام توكاييف لم يُساهم فحسب في تحويل مسار الاضطرابات لصالحه، بل شكّل كذلك مناسبة لموسكو لاستعراض قوتها في إحدى أكبر الدول السوفييتية السابقة الناطقة بالتركية، وفرصة أيضاً لإظهار تحدٍّ غير مباشر لتأثير أنقرة المتنامي في هذا البلد والدول الأخرى الناطقة بالتركية.
كان التدخل العسكري مفاجئاً من حيث التوقيت، فهو جاء بعد ساعات فقط من بيان للكرملين يؤكد فيه ضرورة معالجة الأزمة الداخلية في كازاخستان عبر الحوار، ويُحذّر من أي تدخل خارجي. ولكنّ التدخّل الخارجي حصل بعد ساعات بالفعل من موسكو وليس من أحدٍ آخر. هنالك عدّة أسباب رئيسية دفعت الرئيس فلاديمير بوتين إلى اتخاذ هذا القرار. أولاً، يأمل بوتين أن يحول التدخل العسكري دون تغيير في السلطة في هذا البلد الذي جعلته موارده الهيدروكروبونية الهائلة القوة الاقتصادية الرئيسية في آسيا الوسطى، بما يُهدّد مصالح روسيا المهمة فيه. وقد مهّدت روسيا بالفعل لهذا الخيار من خلال تلميح معلقين مقرّبين من الكرملين إلى أن الغرب يسعى إلى إثارة ثورة ملونة في كازاخستان، بغرض زعزعة استقرار روسيا، بينما تستعد للتفاوض مع الغربيين بشأن الضمانات الأمنية لمنع تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدودها الشرقية. ثانياً، يُريد بوتين إبداء الحزم مبكراً في مواجهة احتمال تمدّد الانتفاضة الشعبية في كازاخستان إلى الدول المجاورة الأخرى التي لديها وضع مشابه لكازاخستان، من حيث طبيعة الحكم السلطوي، وتتوق شعوبها إلى التغيير السياسي. ثالثاً، تختبر الأزمة التأثير الروسي على دول الفضاء السوفييتي السابق.
شكّلت تركيا خياراً مثالياً لكازاخستان، لإحداث التوازن الذي تطمح إليه مع روسيا، وذلك للروابط العرقية والدينية
خلال حرب كاراباخ أخيرا بين أذربيجيان وأرمينيا وانخراط تركيا عسكرياً فيها، أدّى امتناع موسكو عن تقديم الدعم العسكري لأرمينيا إلى إثارة شكوك بشأن قدرتها في الوفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها الموثوقين، ومدى استعدادها للحد من النفوذ التركي المتنامي في الجمهوريات الناطقة بالتركية. منذ وصول بوتين إلى السلطة، بدأت موسكو تُركّز، بشكل أكبر، على إعادة بناء هيكل إقليمي لتعزيز نفوذها في الدول السوفييتية السابقة، عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الجمركي. في المقابل، سعت الدول المستقلة حديثاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك كازاخستان، إلى إنشاء مؤسسة يُمكنها معالجة مشكلات الاقتصاد والطاقة في المنطقة. وكانت فكرة الاتحاد الأوروبي الآسيوي التي روّجها رئيس كازاخستان السابق، نور سلطان نازارباييف، محاولة للحفاظ على تعاون وثيق مع روسيا من جانب، ولتحقيق توازن ناعم ضد النفوذ الروسي من خلال التعاون مع بلدان رابطة الدول المستقلة الأخرى. ولكنّ نزعة بوتين لإعادة الهيمنة على هذه الدول شكّلت تحدّياً لكازاخستان على وجه الخصوص. فمن جانبٍ، لديها حدود طويلة مع روسيا، كما أن العرق الروسي يُشكل غالبية في مناطقها الشمالية. ومن جانب آخر، قوّضت السياسة الروسية جهود نازارباييف لتنويع الخيارات الخارجية، بما في ذلك تعزيز الروابط مع تركيا والانخراط بفعالية في مجلس الدول الناطقة بالتركية.
شكّلت تركيا خياراً مثالياً لكازاخستان، لإحداث التوازن الذي تطمح إليه مع روسيا، فبالإضافة إلى الروابط العرقية والدينية، تُعتبر أنقرة رابع أكبر مستثمر أجنبي في كازاخستان بعد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة. كما تتصدّر قائمة الدول التي لديها أكبر عدد من الشركات التي استثمرت في الاقتصاد الكازاخستاني. بعد زيارة نازارباييف إلى أنقرة في عام 2012، وقع بنك التنمية والبنك الكازاخستاني التركي مذكّرة تفاهم لفتح خط ائتمان بقيمة 250 مليون دولار. كما وقع البلدان خطة لتنفيذ برامج اقتصادية مشتركة تهدف إلى زيادة التجارة الثنائية من 3.3 مليارات دولار في عام 2011 إلى 10 مليارات دولار في 2015. وعندما شرعت روسيا في تأكيد سلطتها السياسية والاقتصادية على مناطق آسيا الوسطى وبحر قزوين، لجأت كازاخستان إلى سياسة التوازن الاقتصادي الخارجي، من خلال المشاركة في مشروع خط أنابيب باكو ـ تبليسي ـ جيهان، فضلاً عن التعاون الاقتصادي مع تركيا. وقد أضحى هذا التوجه أكثر فعالية لجهة تحسين وضع كازاخستان التفاوضي مع روسيا في مجال الطاقة.
بدا دور أنقرة هامشياً في الأزمة الكازاخستانية الراهنة مقارنة بالانخراط الروسي، على الرغم من محاولة إظهار الرئيس رجب طيب أردوغان بعضاً من التأثير السياسي
لدى كازاخستان وتركيا مقاربات متشابهة لقضايا دولية وإقليمية عديدة. وبناءً على التقارب العرقي والثقافي والاعتبارات العملية، اختارت كازاخستان اتباع النموذج التركي للتنمية للتغلب على مشكلاتها الاقتصادية خلال المراحل الأولى من استقلالها. قدّمت كازاخستان أيضًا مساهمات حقيقية في تنظيم مؤتمرات القمة لرؤساء البلدان الناطقة بالتركية، ولعبت دورًا مهمًا في تأسيس مجلس التعاون للبلدان الناطقة بالتركية والجمعية البرلمانية للبلدان الناطقة بالتركية. في ضوء ذلك، اعتبرت كازاخستان تركيا قوة لتحقيق الموازنة مع روسيا. لكن، في وقتٍ امتلكت فيه تركيا القوة الناعمة والموروث العرقي والديني والثقافي لإعادة إحياء دورها التاريخي في العالم التركي في آسيا الوسطى من بوابة مجلس الدول الناطقة بالتركية، سعت روسيا، من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي، إلى تأكيد نفوذها العسكري على الدول التركية في المنظمة، مثل كازاخستان وقيرغيزستان وأوزباكستان وطاجيكستان.
علاوة على أن توكاييف يأمل في أن يؤدي التدخل الروسي إلى حماية نظامه، فإن طلب المساعدة الخارجية خطوة مصيرية للبلاد بشأن مساعيها الطويلة للموازنة بين النفوذين، التركي والروسي، عليها. وبقدر ما تُشكل الأزمة الراهنة فرصة لروسيا لإعادة تثبيت نفوذها في كازاخستان وإضعاف جهود نور سلطان لتحقيق توازنٍ بينها وبين تركيا، فإنها تُشكل أيضاً اختباراً لمدى قدرة أنقرة على لعب دور فعّال في مجلس الدول الناطقة بالتركية الذي لم يمض على تحويله إلى منظمة الدول التركية سوى بضعة أشهر. بدا دور أنقرة هامشياً بالفعل في الأزمة الكازاخستانية الراهنة مقارنة بالانخراط الروسي، على الرغم من محاولة إظهار الرئيس رجب طيب أردوغان بعضاً من التأثير السياسي، من خلال إجراء اتصالات مع زعماء المجلس التركي، وإصدار بيان مشترك يؤكد أهمية الاستقرار في كازاخستان. وسيفتح العامل العسكري الروسي نقاشاً في المستقبل داخل مجلس الدول التركية بشأن ضرورة إنشاء ذراع عسكري مواز لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي للتعامل بفعالية مع الاضطرابات التي قد تحدُث مستقبلا داخل هذه الدول.
الاضطرابات الراهنة في كازاخستان فرصة مهمة لبوتين للاستفادة من التجربة الأذربيجانية
كانت تجربة كاراباخ قاسية لموسكو، فعلى مدى العقود الماضية، كانت روسيا عاجزةً عن الحد من اعتماد أذربيجيان على تركيا نتيجة علاقتها الجيدة مع كل من باكو ويريفان. لكن الاضطرابات الراهنة في كازاخستان فرصة مهمة لبوتين للاستفادة من التجربة الأذربيجانية وإبراز دور روسيا في حماية النظام الكازاخستاني من انهيار محتمل، ويطمح أن تُشكل استجابته السريعة لدعم نظام توكاييف إلى إبراز أهمية دور روسيا ضمانة لاستمرار الأنظمة في دول المجلس التركي التي تسعى إلى تعزيز روابطها مع تركيا. إضافة إلى ذلك، يُريد الرئيس الروسي ترسيخ قناعة لدى هذه الدول بأن البقاء ضمن الفضاء الروسي يُشكل الحماية الرئيسية لها من أي تهديداتٍ وجوديةٍ مستقبلية، وإيجاد تصور بأن انفتاحها على تركيا وطموحها لتفعيل دور منظمة الدول التركية قد يفتح أمامها آفاقاً اقتصادية جديدة، لكنّه لن يكون ذا قيمة عندما يتعلق الأمر بتهديد وجودي لأنظمتها.