تركيا ومصر والأهداف الواقعية
كانت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أنقرة في 4 سبتمبر/ أيلول الجاري أبعد من مُجرّد ردّ لزيارة نظيره التركي أردوغان القاهرة في فبراير/ شباط الماضي، وتأكيد الوضع الناشئ في العلاقات منذ طيّ صفحة أزمة العقد، ففي مضمونها، تنقل الزيارة العلاقات الجديدة من مرحلة بناء الثقة إلى مرحلة مأسسة مشروع شراكة استراتيجية مُتعدّدة الأوجه، بتدشين مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى. كذلك تُعزّز دبلوماسية القادة التي ستعمل دافعاً قوياً لمشروع الشراكة بالقدر الذي عمل فيه غيابها في العقد الماضي على تعميق الخصومة ورفع مخاطر المنافسة الإقليمية بين البلدين إلى مستوياتٍ حرجة. وفي توقيتها الإقليمي المُلتهب، المُتمثل بحرب 7 أكتوبر وسياقاتها الإقليمية، وتوقيتها العالمي المُتمثل بالمنافسة الجيوسياسية العالمية التي تُلقي بظلالها القوية على الشرق الأوسط، تصبح التفاعلات التركية المصرية عنصراً مؤثراً في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.
مع ذلك، الرهانات على الحقبة الجديدة بين تركيا ومصر، على مستوى آثارها على العلاقات البينية أو على مستوى القضايا الإقليمية التي ينخرط البلدان فيها، مثل القضية الفلسطينية وليبيا وشرق البحر المتوسط والقرن الإفريقي، ينبغي أن تكون واقعية. ما لا يرجع إلى أن مشروع الشراكة الاستراتيجية في طور النمو، وسيستغرق وقتاً طويلاً قبل اتّضاح آثاره العميقة فحسب، بل أيضاً إلى التحدّيات الكبيرة التي تواجه عملية مواءمة سياسات البلدين بشكل فعّال في هذه القضايا. وفي ضوء ذلك، تظهر المجالات القابلة للتطور السريع هدفاً واقعياً في المستقبل المنظور. وفي مقدّمتها، يبرز تعميق العلاقات التجارية الاقتصادية ورفع حجم التجارة السنوية المتبادلة من عشرة مليارات دولار إلى 15 ملياراً، والاستفادة من فرص التنمية المتبادلة والتعاون في تجارة الطاقة وتطوير التعاون الدفاعي. وعلى مستوى السياسات الخارجية، يبرُز الانخراط المشترك في مواءمة سياسات البلدين في ليبيا، لنقل الصراع إلى مرحلة الحل، وتعزيز التنسيق بين البلدين في القضية الفلسطينية وفي القرن الإفريقي، باعتبارها أهدافاً أخرى قابلة للتطبيق.
استطاعت تركيا ومصر نقل سياستهما في الصراع الليبي من المنافسة الحادّة عالية المخاطر منذ 2019 إلى المنافسة المنضبطة
ومع أن الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المُتوسط حجر زاوية رئيسي في التشكيل الجديد للعلاقات التركية المصرية، إلّا أن مواءمة سياسات البلدين فيه تواجه تحدّيات كبيرة بفعل تعقيدات الديناميكيات المؤثرة فيه وتعدّدها. ويُمكن أن تكون هدفاً على المدى البعيد. مع ذلك، تفرض الأولويات المُلحة للبلدين في الوقت الراهن نفسها، وإنْ كانت لا تقل أهمية عن الأولويات المُلحة والأهداف القابلة للتطبيق في المستقبل المنظور. بالنظر إلى أن الأزمة التي عصفت بالعلاقات التركية المصرية، استمرّت عقداً، وكانت لها آثار كبيرة عليها، فإن الأولويات المُلحة تتمثل أولاً بتعزيز دبلوماسية القادة بين أردوغان والسيسي، خصوصاً أنه كان للأزمة أثر حاد على العلاقة الشخصية بين الرئيسين. وثانياً، في استخدام الفرص المتاحة في المجالات الاقتصادية والعسكرية أرضية تأسيسية لمشروع الشراكة الاستراتيجية الشاملة. وثالثاً في مواءمة السياسات الخارجية للبلدين في القضايا التي ينخرطان فيها بشكل قوي.
استطاع البلدان، إلى حد كبير، معالجة القضايا، التي كان لها دور مباشر في إشعال الأزمة، مثل علاقة تركيا بجماعة الإخوان المسلمين، والقضايا، التي غذّت الأزمة في العقد الماضي، مثل انخراط البلدين في سياسة الاستقطاب الإقليمي الحادّ، حيث تقلص تأثير هذه السياسة كثيراً، منذ شرعت أنقرة بإصلاح علاقاتها بالإمارات والسعودية. وإلى حد معقول، استطاعت تركيا ومصر نقل سياستهما في الصراع الليبي من المنافسة الحادّة عالية المخاطر منذ 2019 إلى المنافسة المنضبطة التي أوجدت آفاقاً لتطويرها إلى التعاون التنافسي، وحالياً إلى مواءمة السياسات لتسوية الصراع. وحتى في وقت تظهر فيه المنافسة الجيوسياسية بين تركيا ومصر في القرن الأفريقي عاملاً مُهدداً للعلاقات الجديدة، إلّا أن تقاطع مصالح البلدين في دعم الصومال في مواجهة الطموحات الإثيوبية في المنطقة يوجد فرصة لمواءمة السياسات المشتركة في القرن الأفريقي.
حرمت أزمة العقد تركيا ومصر فرصاً كثيرة لبناء شراكة استراتيجية شاملة
وضع رهانات معقولة من البلدين على العلاقات الجديدة يُساعدهما في تحديد توقّعاتهما القابلة للتطبيق في المستقبل المنظور. بالنظر إلى أن لديهما أهدافاً ومصالح ليست متطابقة تماماً في المجالات الجيوسياسية التي ينخرطان فيها، مثل ليبيا وشرق البحر المتوسط والقرن الأفريقي، فإن التوقّعات المعقولة تُساعدهما في تحقيق مواءمة لسياستيهما إلى حدٍّ يسهم في إيجاد هامش قوي للتعاون التنافسي في هذه المجالات. كذلك إن التعامل مع هذه المجالات من منظور التقاط الفرص للتعاون المشترك يُمكن أن يُعزّز عملية مواءمة السياسات على نحو يرجع بالفوائد المشتركة على مصالح البلدين في القضايا الإقليمية الأكثر أهمية لكليهما. ومع الأخذ بالاعتبار الديناميكيات المعقدة التي تتحكّم في جميع هذه القضايا، فإن من بين الأولويات التي على البلدين التركيز عليها الحد من آثار تلك الديناميكيات على فرص التعاون التنافسي.
لقد حرمت أزمة العقد تركيا ومصر فرصاً كثيرة لبناء شراكة استراتيجية شاملة، كان بمقدورها أن تعظّم مصالحهما الوطنية في لحظة اضطراب إقليمي غيّرت وجه المنطقة، وتجعلهما أكثر فعالية وتأثيراً في تشكيل الصراعات المؤثّرة عليهما وأقل تأثرا بسياسات القوى الإقليمية والدولية في هذه الصراعات. لكن الوضع الناشئ بينهما يمكن أن يقلّص الفترة لتعويض الفرص الضائعة إذا ما استطاعتا الاستفادة من دروس تجربة أزمة العقد، وإدارة العلاقة الجديدة من منظور مختلف، يرتكز على نهج الربح المتبادل وإيجاد الفرص، وتغليب التعاون التنافسي على نهج المنافسة الحاد الذي كان سائداً.