هدايا عبد الكريم الشّعار
كانت أم كلثوم سُنباطيةً جدّا، سنواتٍ، في أداءٍ عالي الرّقي، فَخيمٍ في كلاسيكيَّته وقوّته، بديعٍ بداهةً، وثقيل القيمة والجمال لا ريب، غير أنها احتاجت إلى انتقالةٍ ما، إلى ما يُشبه خروجا ما من مزاج رياض السنباطي وإيقاعاته، وتطريباته، فجاء بليغ حمدي في عشر أغنياتٍ بدءا من 1960 ثم محمد عبد الوهاب في عشرٍ أخرى منذ 1964، فأحْدثا تلك النقلة ذات الأثر الحاسِم في العمارة الكلثومية. ولكن، أيُّ منهما أكثر أثرا؟ .. مَررْنا، نحن جمعٌ من الصّحب الطيّب، على هذا الأمر، في دردشةٍ عابرةٍ كيفما اتّفق، في سهريةٍ رمضانيةٍ، مع فنّان التواشيح والابتهالات، المثقف الرفيع في الغناء وألوانه، الموسيقي والمغنّي والملحّن، عبد الكريم الشّعار، جئنا فيها على غير شأنٍ ومسألة، ومنها بعض ذكريات ضيفِنا في الدوحة الفنّان اللبناني الذي سُعدنا في أمسيات رمضان العام الماضي بإطلالاتِه من بيروت على شاشة تلفزيون "العربي 2" في البرنامج اليومي "رمضان كريم". لمّا سمعنا منه موشّحاتٍ وأوردةً وابتهالاتٍ وأناشيدَ لا أرقّ ولا أحلى ("أنا في رحاب الله طائرٌ" مثالا)، بعضُها من تلحينه. ثم نسْعَد به من لوسيل على الشاشة نفسها في برنامج "أهلا رمضان" اليوميّ المنوّع، في أمسيات الشهر الكريم الحالي، فنسمع منه تواشيحَ وأغنياتٍ متنوّعة، يعطيها، وقد عبَر إلى سبعينيّاته أخيرا، حرارةً أخرى من أنفاسِه، وهو الغزير المعرفة بالقديم والمُحدَث الراقي، "يا سراج الكون ..." و"لاجل النبي لاجل النبي" مثاليْن، ومع ابنته ورفيقته، المغنّية الحاضرة المتجدّدة، رنين الشعّار، "سمْرا يا سمْرا"، مثالا. أما "أهل الطرب" الذي أنتجه تلفزيون العربي، وعرَضَه أول مرّة على شاشته، قبل سنوات، فكان، للحقّ، إضافةً خاصةً للمكتبة التلفزيونية العربية، لفائض المتعة والإفادة العالية في الثقافة الموسيقية والغنائية فيه. وكان بتقديم عبد الكريم الشّعار ورنين، وقد أجادا كثيرا في تأدية ما أدّيا من أغنياتٍ تنوّعت بين شامياتٍ ومصرياتٍ وفلكلورياتٍ وجديدٍ وعتيق، عدا عن محاورتهما ضيوفا معتَبرين، من أهل المعرفة، تحدّثوا عن أم كلثوم والطقطوقة والأغنية السياسية وفن الموّال ووردة الجزائرية والسلطنة والشيخ إمام و...، وغير هذا كله كثير.
دردَشَ الزملاء في "أهلا رمضان"، بعفويةٍ طلْقة على الشاشة، مع عبد الكريم الشّعار، عن بعض طفولته وشبابه (وهو الباقي شابّا، كما قال محقّا). ومما قاله إنه لم يعش طفولَته، وهو الذي ولد بعد خمسة شهور من وفاة والده، فكدّ كثيرا وتعب، في مدينته طرابلس، لمّا كان يبيع في دكّانة، ويغنّي للمشترين. لم يسترسل الفنان المعروف في الحكي عن ذلك كله، غير أن العارف بسيرتِه يعرف إنه عمل قبل أن يبلغ الستة عشر عاما في الجزائر في عملٍ يدوي، واشتغل لاحقا في هولندا وأفريقيا وقبرص والبحرين. وفي صباه، تعلّم تلاوة القرآن الكريم وتجويدَه، وتثقّف جيدا، واستهواه الغناء لأم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد عبد المطلّب (استقرّ في مصر بعض الوقت). وفي مشاركته في 1973 في "استديو الفن" في تلفزيون لبنان، أحرز الميدالية الذهبية عن فئة الطرب الأصيل. ومنذ تلك التجربة، ومع شغفه بالموسيقى الدينية، حافظ على تمسّكه بأداء الطرب الكلاسيكي. ليروقَكَ منه إدراكُه العميق الموروثَ الحضاريّ في الموسيقى الشرقية، وقد قال مرّة إنه يتعامل مع الطرب "كعالِم آثار"، إذ يعيد إحياء الغناء العالي القديم، مع تجديدٍٍ في تأديته، وإعادته إلى مكانته، وبإحساس الشغوف والمُحبّ المتيّم بالفن. وإذ يعتنق أن الفن متعة، فإن الغزير من هذه المتعة تلْقاه في التطوير الذي يُبدع فيه، في هذا الزمن الذي يهجوه عن حقّ.
أظنّك عندما تسمع صاحب "صعب المنال يا غزال" يغنّي لغيره، من أغنياٍتٍ حاضرة، وخالدةٍ خصوصا، قصيرةٍ أو طويلة، تبلغُك منه ما يشحَن صوته وأمداءه من رهافة وتسلْطنٍ بارع. ومؤكّدٌ أنّك ستحترم كل هذه الأناقة في صيانته بدائع العتاقى وجميل العظماء الخالِدين الذين تركوا فنّا لن يغيب، طالما أن شخصا من قماشة عبد الكريم الشّعار حارسٌ له، حريصٌ على بقاء الجميل جميلا، وعلى أن تعرف الأجيال، كلّ الأجيال، هذا الجميل، لحماية الذائقة الجمعية من كل ما قد يخْدشها. وفي هذا كلّه، يقدّم لنا الكبير المقيمُ في المغنى الرفيع هدايا ثمينةً، بهيجةً، يحسُن، من قبل ومن بعد، شكر "العربي 2" على تيسيرِها لنا، لمداركنا وأخيلتنا.
كنتُ أقول، على غير ما يرى صديقي حسين عبد العزيز، إن بليغ وليس عبد الوهاب كان الأكثر تأثيرا في نقلة أم كلثوم من سُنباطيّتها تلك، ولمّا سأل اثنانا أستاذَنا عبد الكريم الشّعار، أجاب، إنه بليغ. ... لي، إذن، أن أبتهج أكثر.