هاشم صالح في سياق التنوير

06 مايو 2024
+ الخط -

من عادة المُفكّر السوري ومترجم محمد أركون إلى العربية هاشم صالح أن يكون قليل الظهور في ندوات وفعاليات عربية. وهو يقدّم نفسَه، وتُقدّمه كُتُبه أيضاً، مُفكّرَ أنوارٍ عربياً ينشد تقريب وجهات النظر، ومهتمّاً بمناطق تنويرية في تاريخنا العربي، من المُهمّ إحياؤها والبناء عليها لتجاوز مرحلة الاحتقان الديني والمذهبي، التي يمكن أن تهدّد السلم الاجتماعي، كما في كُتُبِه: "الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟" (دار الساقي، بيروت، 2007)، و"الإسلام والانغلاق اللاهوتي" (دار الطليعة، بيروت، 2010)، و"العرب بين الأنوار والظلمات" (دار المدى، دمشق)، ويناقش في الأخير صراع مُفكّري عصر الأنوار الطويل، غربياً وعربياً، وهو يرى أنّنا أكثر ما نحتاجه اليوم، في العالميْن العربي والإسلامي، هو الكُتب التنويرية في الدين، على غرار مُؤلّفات ومقولات جان جاك روسّو وفولتير وإيمانويل كانط ورينيه ديكارت، إذ أحدثت صراعاتهم الفِكْرِيّة تحولاً حقيقياً في بيئاتهم الاجتماعية والسياسية في الغرب، وأسهمت في نقل المجتمعات الأوروبية من مَرحلةِ العُنفِ إلى مرحلةِ التعايش. ويستند صالح في ذلك إلى خلفية مَعرفيّة لأكبر مُفكّري الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الذين أسهوا في نقل أوروبا من حياة القرون الوسطى المتوحّشة إلى ما سمّي "عصر الأنوار". 
وقد أحيا صالح، أخيراً، فعاليةً في العاصمة العُمانية؛ مسقط، ضمن الأيام الفلسفية التي تقيمها مؤسسة بيت الزبير سنوياً. بدأ صالح محاضرته بِعَرضٍ مُوجَزٍ لما قبل عصر الأنوار الأوروبي حين ساد ما سمّاه "المذهبية القاتلة"، بين الكاثوليك والبروتستانت. اعتبر صالح، في محاضرته، أنّ ما حصل في أوروبا، طوال قرون مُظلمة، من قتلٍ على أساسٍ طائفي ومذهبي، أبشع مما يمكن تصوّره، وكان لمُفكّري عصر الأنوار، فيما بعد، مساهمةٌ مُهمّةٌ في حرف العقول عن مسار العُنف والقتل المَجّانِي. كما يرى أنّ الفترة التي سادت فيها المعتزلة الحضارةَ العربيةَ الإسلاميةَ شبيهةٌ بعصر الأنوار، ولكن لم يُقيّضْ لها الاستمرار. ويرى أيضاً أنّ زمننا العربي الحالي بحاجة إلى مثل هذا العصر، وهو مُتفائل من هذه الناحية، إذ يرى أنّ الوطن العربي في طريقه لأن يتخلّص من العُنف الطائفي، ولكنّ الأمر، حسب وجهة نظره، يحتاج وقتاً وصبراً.
 يرى المُفكّر السوري أيضاً أنّ الغرب بدأ يخون عصر الأنوار بسبب الدعوات الشاذّة التي لا تمتُّ إلى الأنوار بصلة، مثل زواج المثليين، وما شابه ذلك من تقليعات اجتماعية ممجوجةٍ تُشكّل صدمةً بشريةً، وتقتضي من الفكر مُحارَبَتَها وتفكيكَها قدر الإمكان. يقول مثلاً إنّه يقرأ أحياناً أنّ رجليْن متزوّجيْن اشتريا طفلاً من أجل تربيته، ويرى أنّ مثل هذه الفوضى الاجتماعية دعتْ بعض مُفكّري الغرب إلى تبنّي دعوةٍ إلى الرجوع لقيم الدين المسيحي وفق منظورٍ جديدٍ للمساهمةِ في الحدّ من انتشار هذه الظواهر المُهدّدة للإنسانية، كما فعل المفكر الألماني يورغن هابرماس في كتابه " تفكير ما بعد الميتافيزيقا" (1988)، حين رأى أنّ الدين ضرورةً وجوديةً لا يمكن الاستغناء عنه، وأكّد هذه النظرة القائمة على الحوار في كتابه الجديد، الضخم: "بين النزعة الطبيعية والدين" (2008)، الذي قال فيه صالح إنّه لم يقرأْه بعد، ولكنّه يعرف جيداً التوجّه الذي يسير عليه هابرماس (ماركسي الأصول) في الوقت الحالي، ودفاعه عن فضاء مفتوح يتعايش فيه العلماني والمُلحد والمؤمن بشكل متساوٍ، رافضاً في الوقت نفسه التوظيف السياسي لاحتماليات العُنف المتأصّلة في الأديان. 
وقد تجنّب المُفكّر السوري الحديث ضدّ هابرماس المُتّهم بانحيازه إلى إسرائيل في مذابحها المروّعة ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل، باستثناء عبارة: "للأسف الشديد"، التي تفوّه بها حين تطرّق مُقدّم المحاضرة محمد الشحي إلى موقف هابرماس الصادم بوقوفه مع إسرائيل في عدوانها المكشوف. 
كانتْ مُحاضرة هاشم صالح الأبرز ضمن الفعّاليات الفلسفية السنوية لهذا العام في مسقط، وكان بين من حضروها وزير الأوقاف العُماني وحشدٌ مُهمٌّ من الجمهور، وقد استمرت الفعّاليات يوميْن، في ثلاث فترات: صباحية، وبعد الظهر، ومسائية، شاركت فيها أيضاً جملةٌ من الباحثين العُمانيين في مجالات الفِكْر والتنوير مثل محمد العجمي، وسعود الزدجالي، وعلي الرواحي.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي