نهاية حارس الانقسام الفلسطيني
صخرتان كبيرتان انزاحتا عن صدورنا، هنا وفي كل بقاع الأرض تقريباً، في غضون ستة أشهر فقط، وأتاحتا لنا إطلاق زفرة قوية بعد طول احتباس، والعودة إلى التنفس من فوق سطح الماء: الأولى كانت صخرة عاتية صلدة، وثقيلة الوزن بكل المعايير، فيما كانت الثانية كسابقتها من مقلع الحجارة ذاته، وإن بدت أقل حجماً، قياساً بالموصوفة آنفاً، الأمر الذي يمكن اعتباره، من باب التحليل السياسي، نهاية مرحلة طالت كثيراً، وكادت تهرِس عظامنا.
كان دونالد ترامب تجسيداً شخصياً للصخرة الأولى، التي يعادل ثقلها وزن الدولة العظمى الوحيدة، فبدت سنواته الأربع في البيت الأبيض تعبيراً عن الزمن الضائع من عمر أميركا والعالم كله، الأمر الذي جعل سقوطه في الانتخابات الرئاسية، أواخر العام الماضي، حدثاً كونياً بكل ما في الكلمة من معنى، حيث سقطت مع سقوطه الغطرسة والرعونة والشعبوية، ناهيك عن الانعزالية والسياسات التمييزية ضد السود والمسلمين والنساء والصحافة وغيرها.
أما الصخرة الثانية التي انزاحت عن صدورنا، قبل أسابيع قليلة، وهي موضوع هذه الزاوية، فقد كان بنيامين نتنياهو رمزها، والممثل الحقيقي الوحيد لها، الأمر الذي جعل من إسقاطه عن سدة الحكم حدثاً لا يمكن التقليل من أهميته، على الرغم من أن خلفاءه من الطينة السياسية نفسها، نظراً إلى ما تفرّد به الزعيم الليكودي الأوحد من سماتٍ شخصية، أساسها القدرة على الكذب، واللعب على الحبال، وصناعة الخوف، إلى الحدّ الذي مكّنه من الحكم فترة أطول من فترة حكم ديفيد بن غوريون مؤسس الدولة العبرية.
ليس في وسع أحدنا القول إن إسرائيل في زمن ما بعد نتنياهو ستكون غير ما كانت عليه دولة الاحتلال والتهويد والاستيطان من قبل، أو أن غياب هذا الفاشي الكاره للعرب عن المشهد السياسي سوف يبدّل شيئاً ذا مغزى في الصورة الكلية لدولةٍ ذات روح عنصرية كريهة، ذلك أن إسرائيل سوف تظلّ هي إسرائيل، تماماً كما أن العقرب هو العقرب، والأفعى هي الأفعى، وبالتالي من السذاجة، إن لم نقل من الحماقة عينها، التعويل كثيراً على هذا المتغيّر. وفي المقابل، لا يمكن غضّ البصر عنه. ذلك أن نتنياهو لم يكن شرّيراً فحسب، وإنما كان الشر في حد ذاته، وإن هذا الأيديولوجي المتمسّك بمفهوم "أرض إسرائيل الكاملة"، وبسياسة أن أفضل حل هو اللا حل، كان أدهى من كل سابقيه، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو، الاتفاق الذي تعهد رئيس حزب الليكود، في أول منافسة له مع شمعون بيرس أواسط التسعينيات، بإسقاط ما أسماه اتفاق العار مع منظمة التحرير الفلسطينية، بادعاء أنها العدو الأول لبني إسرائيل منذ أدولف هتلر، ونجح، خلال سنوات حكمه الطوال، نجاحاً منقطع النظير على هذا الصعيد.
والحق، إن أبرز نجاحات نتنياهو لم تكن في مجال التوسع الاستيطاني، فقد بزّه في ذلك رؤساء حكوماتٍ سابقون، أو في وأد كل مسعى إلى تحقيق السلام، أو غير ذلك الكثير، وإنما تمثلت بتعزيز الانقسام الفلسطيني، ورعايته على رؤوس الأشهاد، ومدّه بسائر عوامل الاستمرار، من منطلق أن هذا الانقسام مكسب استراتيجي، وحجّة دامغة لمعارضة أي حل مع شعبٍ ليس له قيادة واحدة تمثله، يمكن التفاوض معها.
وليس معنى هذا الكلام إلقاء وزر الانقسام على الغير، أو تبرئة أهل الدم من المسؤولية الواقعة على عاتق الطرفين، إلا أن نتنياهو كان هو الحليف الموضوعي للانقسام، من دون اتفاق مكتوب، وكان أيضاً الحضن الدافئ لكل النوازع والهواجس والدوافع، التي أدركها الرجل مبكراً، ولعب عليها طويلاً، فهو من قوّض "أوسلو" بيد، وشن بالأخرى أربع حروب وحشية على غزّة، مع الحرص على بقائها حية تتنفس بصعوبة، ما حوّل الانقسام إلى انفصال بين كيانين متخاصمين تحت سلطة احتلال واحدة.
بكلام آخر، لم يكن نتنياهو صانع الانقسام الذي وقع في عهد سلفه أولمرت، إلا أنه كان حارس هذا الانقسام، وأحد أهم رعاته، حيث كان يضعف طرفاً هنا بكل وسيلة متاحة، وهي كثيرة مع الأسف، ويقوّي طرفاً هناك داخل السجن الكبير، يحاصر القطاع براً وبحراً. وها هو سيد الشرور كلها يغادر المشهد تاركاً خلفه الانقسام أعمق مما كان، وبات حقيقةً مريرةً من حقائق الحياة السياسية الفلسطينية الغاصّة بشتى المرارات، فهل بعد انتهاء نوبة الحراسة هذه تنفتح نافذة فرصةٍ سانحةٍ للعودة إلى الوحدة الوطنية، إلى طوق النجاة الوحيد؟