نموذج إنساني مشرق
هنأ الدلاي لاما، المعلم الهندي رانجستين ديسيل، لفوزه بجائزة المعلم العالمية لعام 2020 (مليون دولار)، ومبادرته التنازل عن نصف الجائزة الثمينة وتقاسمها، من دون أدنى تردّد، مع منافسيه من المرشحين التسعة الذين وصلوا إلى القائمة النهائية. مشيداً بقراره السخي، خاطبه الدلاي لاما، في تغريدة على "تويتر"، بأنه ضرب مثالا في التعاطف.
تنافس رانجستين ديسيل على الجائزة المقدّمة من مؤسسة "فاركي"، بالتعاون مع اليونسكو للاحتفال بالمعلمين الاستثنائيين الذين قدّموا مجهوداتٍ بارزة في مهنتهم، وهي التي تصنف من المهن الأكثر صعوبةً، بعد مهنة عمّال المناجم. حصل على الجائزة بجدارة واقتدار، نظرا إلى سيرته المهنية المبهرة الحافلة بالمجهودات المميزة في تمكين تعليم الفتيات في مدرسته في الهند. ولم يكن تحقيق ذلك الفوز الاستثنائي الكبير أمرا يسيرا على المعلم الهندي الشاب، في ظل التنافس الشديد بين 12 ألف مرشح من 140 دولة. عمره 32 عاما، ويعمل في مدرسة ابتدائية في قرية باريتوادي في ولاية ماهاتشترا، ينتمي معظم تلاميذها إلى المجتمعات القبلية. وصل به التفاني والإخلاص إلى تعلّم لغتهم وإتقانها، لتتسنّى له ترجمة الكتب المدرسية المقرّرة إلى لغتهم الأم. وبالاستماع إلى حواراته مع وسائل الإعلام، يمكننا لمس ذلك الشغف الذي يميّز هذا الشاب المبدع العاشق لمهنته. وهو الذي، بحسّ مسؤولية عال، ابتكر رموز استجابة سريعة (كيو أركود)، من أجل تحسين جودة التعليم، عبر منح الطالب إمكانية الوصول إلى التسجيلات والقصائد الصوتية ومحادثات الفيديو، حيث يجري حاليا استخدام تلك الرموز على نطاق واسع في كل أنحاء الهند. ويصر ديسيل على أن فلسفته في التعليم تقوم على تحدّي الطالب نفسه أولا، ويركّز أكثر على أهمية تعليم الفتيات، ويعبّر عن سعادته بسبب تراجع ظاهرة تزويج القاصرات في بلاده، ما مكّنهن من تلقي العلم أسوة بالذكور.
يؤكّد رانجستين ديسيل على أنه يقوم بمهمته معلماً بمتعة شديدة، وأنه يشعر بمحبّة طلابه وقربه منهم، لأنه يمنحهم الشعور بأنه واحدٌ منهم. علاوة على ذلك، يقدّم دروسا تعليمية عبر الإنترنت في 83 دولة، مؤكدا على أهمية إمكانات التكنولوجيا في تسهيل مهمته، ما حفّزه على إطلاق مشروع لبناء روابط معرفية بين الشباب في العالم لتقريب الأفكار ومشاركة الاهتمامات. وفي حفل افتراضي أقيم في متحف التاريخ البريطاني في لندن، حيث تم إعلان النتائج، ظهر على الشاشة فرِحاً وهو جالسٌ بين والديه الفخورين فرحا عقب إعلان فوزه. قال، في كلمته، إنه يستلم الجائزة بالنيابة عن مئات التلاميذ والمعلمين الذين يعملون بجهد في هذه الأوقات العصيبة، بسبب تفشّي فيروس كورونا. وأكد أن توفر فرص متساوية للتعليم حق مكتسب بالولادة، وأن المعلمين هم صنّاع التغيير الحقيقي، وهم حقا من يغيّرون حياة تلاميذهم. ثم أعلن عن رغبته، وسط ذهول الجميع، في التنازل عن نصف الجائزة، لتوزع على باقي المرشحين التسعة، فحصل كل واحدٍ منهم على 55 ألف دولار. كان متوقعا ومفترضا احتفاظه بالمبلغ كاملا لنفسه، كون الجائزة استحقاقا خالصا له، غير أنه أراد أن يعبر عن احترامه زملاء المهنة، تقديرا منه لجهودهم، وهو الأدرى بنبل رسالة التعليم وأهميتها في نهضة الأمم.
من هنا، حريٌّ بنا الاحتفال بتلك الروح الثمينة الخيرة نموذجا في الكرم والشهامة والإيثار والقناعة والطيبة المطلقة التي باتت عملة شديدة الندرة، في زمن أغبر، سادت فيه قيم سلبية مقيتة، مثل الأنانية والكراهية والحقد والحسد، جعلت كثيرين منا كائناتٍ كريهة، تمقت نجاح الآخرين وتعدّه تهديدا لها. ويبقى رانجستين ديسيل لكثيرين نموذجا إنسانيا مشرقا، يبعث وجوده وأمثاله مبرّرا للأمل، واستعادة للثقة بقوة الحب والخير والعطاء. وقد أعطانا هذا المعلم النبيل، من قريته الهندية النائية، دروسا بليغة في جدوى الحياة وقيمة المشاركة وبث قيم الخير والمحبة، فاستحق إعجاب العالم واحترامه وتقديره وحبه.