نكات مازن معروف... للمسلّحين

09 ديسمبر 2016
+ الخط -
يُفرحك أن تصادف إبداعاً لافتاً في عملٍ أدبي، ولا سيما عندما يُفاجئك بروعة ما يشتمل عليه من ألعابٍ وحيلٍ ومراوغاتٍ في الكتابة. تزداد غبطتك عندما يجد هذا العمل تكريماً مقدّراً، واحتراماً لجدارته، وتثميناً لتميّزه. أتحدّث، هنا، عن "نكات للمسلحين" (الكوكب، رياض الريس للكتب والنشر، 2015)، المجموعة القصصية الأولى للكاتب الفلسطيني مازن معروف (مواليد بيروت، 1978)، وعن فوزها بجائزة الملتقى الأولى للقصة القصيرة العربية، والتي أعلنت في الكويت الأسبوع الجاري. سأتحدّث، هنا، بحماسٍ خاص، وشديد، عن الذي أحدثه الكاتب المدهش، مازن، في الضربة التي يُسدّدها في فن القصة القصيرة، الجنس الأدبي المهمل، والمنسيّ ربما، والذي يُؤمل أن تساهم، في إحياء مقروئيته والانتباه إليه، الجائزةُ العربية الجديدة، والتي ينهض عليها ملتقىً ثقافيٌّ يقوم عليه القاص والروائي الكويتي، طالب الرفاعي، بالتعاون مع الجامعة الأميركية في الكويت. والظاهر أن لجنة التحكيم (برئاسة الروائي والقاص المغربي، أحمد المديني) وقعت على الجديد في صنيع مازن معروف في قصصه الماكرة، وفي معانقتها الملهاة بالمأساة، الكوميديا بالتراجيديا، الموت بالفرح، السخرية بالكآبة. حضر كثيرٌ من هذا في قصص لاعبين كبار في القصة العربية الحديثة، غير أن "نكات للمسلحين" تمضي فيه إلى حيث لا سقوف لمراوغات لغة السرد ورشاقتها، ومناورات القصّ ودعاباته، إلى حيث الهزل والكوميديا يُصبحان من أدوات الواقع الملتبس في صفته هذه، واقعاً حقّاً أم خيالاً محتمل التحقّق.
لم يعد هناك مطرحٌ في الأدب للعاديِّ والعابر والمنسوخ عن سابقه، والمتشابه مع غيره. إما أن تضرب، أن ترمي بقبضةٍ ثقيلة، أو أن تتدّرب أولاً بتمارين كافية، قبل أن تدخل الحلبة. وفي مجموعته القصصية الأولى، يُلقي مازن معروف حجره الثقيل، فيضيء حجرُه هذا عالياً. أما في مجموعته الثانية التي صدرت قبل أيام، ولم يقرأها بعد صاحب هذه الكلمات "الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه" (دار المتوسط)، فالمتوقع أنه يخوض فيها جولةً أخرى في بناء مشهديّاته الذكية، العجيبة، الحاذقة، الصادمة، وجولةً ثانيةً في صناعة فانتازياتٍ جديدة.
السارد طفلٌ غالباً، يُشغله خاله الذي يموت ثلاث مرّات، ويلبس بدلة الماتادور الإسبانية الواسعة. ويشغله والده الذي يُختطف، ويتمنى له عيناً زجاجية، ويشغله أخوه الأصمّ، فيريد أن يتبرّع بأعضائه. السارد ليس طفلاً في قصصٍ أخرى، لا تعرف من هو أحياناً، زوج امرأة مثلاً. ثمّة قصصٌ تتوالد من بعضها، تظنّها ذات مسار روائي، غير أن مازن لا يريدك أن ترتكب هذا الظن، إنها قصصٌ فحسب، لكل منها مبناها وحكايتها، في وسعك أن تقرأ أياً منها من دون التتابع الحاضر. لك أن تلعب في قراءتك أيضاً، طالما أن الكاتب القاص يحتال عليك في هذا الأمر (وغيره).
أصاب أستاذنا المديني، في إيضاحه حيثيّات فوز "نكات للمسلحين" بالجائزة، في إشارته إلى "دهاء" مازن معروف في قصصه هذه، وإلى "سخريةٍ عميقة" فيها. وفي قوله إن هذه المجموعة "متميّزة جداً في المجموعات الأخرى التي وجدت بينها". وثمّة جرأةٌ وشجاعةٌ ظاهرتان في تكريم هذه القصص في المرتبة الأولى من بين خمس مجموعاتٍ حظيت بالقائمة القصيرة، ذلك أن شيئاً من "قلة الأدب"، بالمفهوم الأخلاقي السائد، تشتمل عليه بعضها، غير أن الطموح الذي يتوخّاه قصّ مازن معروف لا يكترث بحساباتٍ كهذه، وإنما يعتني بالقدرة على إحداث متعة الإيحاء والتخيّل والاكتشاف في الحكي المتباسط مع القارئ، والسهل الليّن المرن. ثمّة واقعٌ غير منطقي في القصص، يوازي نقصان المنطق في الحروب التي تقع خلف سرد مازن وحكاياته. كأن القاص الفلسطيني الشاب الذي ارتحل إلى أيسلندا، حيث يقيم هناك، يصنع منطقه الخاص، المفارق للحادث قدّامه من وقائع القتل والتمويت الكثيرة، وتنجمُ عنها جثثٌ غزيرة، ويتبعثر في غضونها معاقون ومصابون، وقتلى وشهداء وبين بين.
ليقل من يشاء إن الحماس هنا لقصص مازن معروف (ولمازن نفسه أيضاً، لم لا؟) مفرطٌ، وبالتالي ليس منطقياً. ليكن، لا بأس، فالأهم هو التنويه إلى أن بهجةً وفيرةً يحوزُها قارئ "نكات للمسلحين"، والتقدير لها في جائزةٍ عربية (20 ألف دولار) من بين 189 مجموعة قصصية، مبعث بهجةٍ مضاعفة. .. مبروك مازن، مبروك لزملائه في جائزة ملتقى صديقنا طالب الرفاعي، أدام الله مسرّات الجميع.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.